ما إن أطلق الشاب مصطفى فكاك المعروف بـ“سوينغا“ إصداره المرئي الأخير، ضمن السلسلة المسماة بـ«آجي تفهم»، حتى تقاطرت التساؤلات والمراسلات على طاقم مجلة “زمان“، للتأكد من صحة المعطيات الواردة في الفيديو، بحكم ما يتضمنه من مضامين تاريخية، وبحكم تخصص المجلة في تاريخ المغرب وعنايتها وتدقيقها في هذا الباب، فكان لا بد لنا إذن من الرجوع إلى الفيديو عبر منصة اليوتوب، والتدقيق مع كل ورد به من معلومات، خاصة وأنها موجهة إلى المشاهد باعتبارها حقائق ومسلمات، وأن ما عليه سوى أنه «يجي يفهم».
لكن بداية من المهم أن ننوه إلى أنه لا يمكننا إلا تشجيع كل المبادرات الهادفة إلى تبسيط المعرفة، وتقريبها من عموم الناس، بأسلوب خال من المصطلحات الأكاديمية التي لا يفهمها سوى المتخصص، مع تحفظنا على توظيف لغة الشارع، مطلقا كوصف بعض الرموز التاريخية بـ“الساط“، لكنه من الجميل أن يعتني شاب عصامي انتقل من عالم السيرك إلى عوالم المعرفة والتأثير، موظفا قدرته في التواصل والمخاطبة، بحقول العلم والمعرفة، بشرط أن يكون دقيقا في معطياته، متمكنا من مادته، خصوصا حين يتعلق الأمر بعلم التاريخ، بكل ما له من ثقل، وما يحتوي عليه من ألغام، وما تترتب على روايته من مسؤولية أدبية.
لا أعلم، ابتداء، لِم تم تقديم الحلقة على أنها تمهيد للحديث عن أصول التوتر بين المغرب والجزائر، مع أن تاريخ المغرب القديم وعصور ما قبل الإسلام، والحديث عن المملكة المورية والفينيقيين ليس له أي تأثير على التقسيم الحالي، أو النزاعات الحدودية الحديثة، كان يمكن بدل ذلك التركيز على الصراع بين المرينيين وبني عبد الواد، عندما قسم المجال المغاربي إلى ثلاث كيانات سياسية بعد انهيار الدولة الموحدية التي كانت تحكم كل الدول المغاربية، وهو ما يظهر سوء فهم واضح لطبيعة الصراع بين الطرفين. مما هو لافت للانتباه في هذه الحلقة، تصوير المغرب وكأنه لم يكن شيئا قبل الفينيقيين، وأنه لم يعرف الكتابة ولا الزراعة ولا المدن إلا مع دخولهم، والحال أن المنطقة عرفت الكتابة خصوصا الكتابة الليبية–البربرية ما قبل العصر الفينيقي، كما أثبتت ذلك النقوش الصخرية وبعض نقوش العصر القديم، كما أن الزراعة كانت معروفة لدى سكان المنطقة، ولم يثبت لحد الآن بناء الفينيقيين لأي مدينة سوى قرطاج فيما بين أيدينا من معطيات، بل اكتفوا بالمراكز الصغرى والوكالات التجارية لأن هدفهم الأصلي كان هو التجارة وليس الاستيطان .حتى المملكة المورية التي جاء في الفيديو أنها أول تنظيم سياسي عرفه المغرب، فذلك حسب المصادر اللاتينية التي تحدثت عنها خلال القرن الثالث قبل الميلاد، فيما أن المعطيات الأسطورية تتحدث عن ممالك سابقة، وعن ملوك أسطوريين كأطلس وأنطي، وعن شعب الأطلانط وغير ذلك. معلومات أخرى غير دقيقة عن كيفية تعامل الإمبراطوريات الإسلامية السابقة مع جنوب بلاد المغرب، وعن علاقة بعض سلاطين المغرب بدمشق أو بغداد، وعن الأدارسة وأنهم تواجدوا فقط بوليلي وفاس، وعن امتداد نفوذ المرابطين إلى بلاد مالي الحالية، فيما تؤكد الدراسات أن المرابطين لم يسبق لهم غزو هذه المنطقة التي كانت تعرف بمملكة غانة، وعن ملوك الطوائف الذين قيل إن زوال حكمهم كان مع الزلاقة، فيما يقول التاريخ إن ابن تاشفين هو من أسقط هؤلاء الملوك، بعد أن تبين له أن مواجهة المسيحيين يقتضي جبهة إسلامية موحدة، وعن ابن تومرت والادعاء بأنه كان يحاول توحيد العالم الإسلامي انطلاقا من أفكاره.
الحقبة السعدية من تاريخ المغرب، على أهميتها في شرح واقع اليوم، نالت نصيبها من الأخطاء التاريخية، ففضلا عن المصطلحات التي لم تضبط، كاستعمال اسم “تركيا“ في إحالة إلى السلطنة العثمانية، أو وصف باربروسا وعروج بالقراصنة، وهو وصف أطلق من قبل أعدائهم، فحتى على مستوى المضمون، لا يمكن الحديث عن توظيف العثمانيين للوطاسيين، والواقع أن أبا حسون هو من استنجد بالعثمانيين سنة 1554 وليس ،1553 ولا شيء يؤكد رواية تسميم العثمانيين لعبد المالك السعدي، وليس المنصور الذهبي من أسس نظام المخزن كما في الفيديو، بل الموحدون من كان لهم هذا السبق، وحتى المرابطون مما أخذوه عن الأندلس، نعم يمكن القول أن المنصور هو أول من قعد للمخزن، ووضع له المراسم والتدابير الإدارية والتنظيمية التي أخذها عن العثمانيين، لكنه ليس مؤسس المخزن ولا أول واضع له، فيما لم تتم الإشارة نهائيا إلى أن أتراك الجزائر كانوا باستمرار السبب في مشاكل الحدود بين المجالين المغربي والجزائري.
هذه ليست إلا أمثلة مصغرة لما جاء في الفيديو المذكور من معطيات غير دقيقة، ولا يتسع المجال للحديث عن جميعها، ولا مانع لدى المجلة في القيام بأي عملية تدقيق وتحقيق، لأي مبادرة تهدف إلى نشر المعرفة وتبسيطها، وتعميمها على مختلف الشرائح، وحين يكون العمل دقيقا في مضامينه، جذابا في عرضه وتقديمه، سواء من سوينغا أو غيره، سنكون أول المرحبين والمشجعين، حتى لا نقع في الافتراء على التاريخ، ونحن نريد للناس أن يفهموه.
محمد عبد الوهاب رفيقي
كاتب رأي