دخل المغرب، منذ أواسط سبعينات القرن الماضي، في مرحلة جديدة من تاريخه، امتازت بتعاقدات من نوع آخر بين الفاعلين السياسيين، أي الملكية المغربية والتشكيلات السياسية للحركة الوطنية التحررية.
أسست هذه التعاقدات الضمنية لثقافة سياسية تسعى لتعويض النزاع بالتعايش، ولتوسيع مساحة الوطن، حتى يشمل التراب والعيش المشترك والمخيال الجماعي. وترجمت في الممارسة السياسية إلى سن توجه “تفتح النظام السياسي”، بالتدريج، لإشراك فرقاء جدد في الحكم، كما شجعت، داخل الحقل الاجتماعي، على اللجوء إلى الحوار والبحث عن التعاقد بين الأطراف.
كان الطموح، وقتئذ، هو الرقي في علاقات الفاعلين فيما بينهم لبلورة مشترك واسع يمكن، في نفس الآن، من تدعيم ركائز استقرار البلاد، وإرساء قواعد تباري ديمقراطي يؤهل الوطن ونخبه لولوج العصر من بابه الكبير. لم يتحقق، بالكامل، هذا الطموح نظرا لتخوفات كل الأطراف التي كبلتها التوجهات المحافظة داخلها. وبالرغم من الترويج القوي لشعار “التوافق الوطني”، فقد ظل الحذر والاحتراز البعدين المتحكمين في تعامل الفرقاء.
هكذا عند نهاية الثمانينات، سيعوض “التوافق الوطني” بشعار جديد هو “الانتقال الديمقراطي”، وستتفق كل التوجهات السياسية والثقافية على الطابع الملتبس لهذا الشعار. وسيظل الجواب على السؤالين: الانتقال من ماذا؟ وإلى ماذا؟ معلقا ليومنا هذا.
البعض يتحدث باسم لله ويؤول القرآن والأحاديث النبوية وفق مصالحه وطموحاته، والبعض الآخر ينطق باسم الملك، وطرف ثالث ينصب نفسه الممثل الشرعي للشعب، ويعبر عما ينسب له من انتظارات ومطالب، وهناك طرف رابع يبوء نفسه المجسد للعلم ويفتي بالحقيقة المطلقة في الدين والطبيعة والمجتمع. ليست المعضلة في أن يفوه أي طرف بحقيقة ما، بل في أن ينفي عنها طابعها البشري وبعدها التأويلي، وبالتالي يقدمها كحقيقة مطلقة لا نقاش حولها لأن المنسوبة إليه معصوم ولا مجال لمناقشته. حتى العلم الوضعي أدخله بعض الدغمائيين إلى “فضاء المقدس”. فلأن العقلية المحافظة منبهرة بالمطلق، ومنطقها مؤسس على الانتقال من “اليقين إلى اليقين”، فإن الحقيقة العلمية، النسبية في جوهرها، لأنها مؤسسة على دينامية “التفكيك وإعادة التركيب”، ومنطق ” من الشك إلى الشك”، تتحول هي نفسها إلى يقين باسم العلم. تنصب هذه العقلية المحافظة، كفاعل تاريخي، لله والملك والشعب والعلم، وتحمله كل المسؤوليات، وتحتمي خلفه، وتنفي أو تقلل من مسؤولية الإنسان كإنسان، وتلغي محاسبته، بل تلغي المحاسبة أصلا. لذلك، لم تدخل مجتمعاتنا، بعد، ثقاتفة “مركزية الإنسان”، أي اعتبار النشاط الإنساني حصيلة فعل الإنسان أساسا، وبالتالي فهو قابل للصواب والخطأ، وخصوصا نشاط يستدعي النقد والمراجعة. لذلك، ينتقل الفرقاء من ممارسة إلى أخرى دون تقويم جدي لما سبق، دون استنتاج دروس، وفي آخر المطاف يعاد إنتاج نفس الممارسات ونفس البنى ونفس الإخفاقات، ولو تغير الأفراد، ولو تغيرت التشكيلات الفاعلة. فيبقى الانطباع، لدى العموم، كأن التاريخ يعيد نفسه، وكأن الفاعلين من طينة واحدة، أي باحثون عن المصالح الشخصية الضيقة، فكلهم “انتهازيون ونفعيون”، فيعم اليأس ويعاق الانتقال.
شهد الحقل الاجتماعي المغربي، منذ استقلال البلاد، تحولات كبرى امتازت أساسا بالانتقال من ثقافة “المكتاب واللي كتب لله” إلى ثقافة البحث عن تحسين شروط العيش وجودة الحياة عبر المطالبة برفع “القوة الشرائية” للعائلات، وبالنتيجة تحديد النسل والتحكم فيه بالرغم من “الموانع الدينية”. خلال هذه السيرورة تعددت النزاعات الاجتماعية، وتنوعت أساليب حلها، مع سيادة العنف في ذلك. وانتهت منذ تعسينات القرن الماضي إلى تأسيس آلية “الحوار الاجتماعي”.
في هذا الباب أيضا توقف التطور، وتحول “الحوار الاجتماعي” من آلية واعدة، إلى ميكانيزم رديء لتمزيق الوعود وإضافة الإحباط للإحباط. فلأن العقلية المحافظة، بغض النظر عن الخطاب الذي يعبر عنها، أكان مخزنيا، شعبويا، يساريا، أم إسلاميا، لا تجيد إلا المنطق الثنائي، وهذا المنطق يتعارض مع مبدأ الحوار. يستدعي هذا الأخير منطقا ثلاثيا يخصص للحوار مساحة أوسع بين “الأنا والآخر”. يمتاز واقعنا، منذ أواسط التسعينيات، بتقلص مساحة الحوار، وتناقص لحظاته المنتجة، وبإجهاض معظم ما راكمه خلال فتراته الوجيزة، وآخر إحباطاته المشاورات المبتورة حول “نظام التقاعد”.
هذه بعض القضايا فقط، التي تجعل الانتقال في المغرب “معاقا” لحد الآن. الرغبة في الانتقال قائمة عند كل الأنتلجنسيات، وعلى رأسها الأنتلجانسيا الملكية إلا أن الجميع في حالة انتظار ومكبل بقيود العقلية المحافظة. إن الانتقال المنشود يتطلب في ما يتنطلب، إلإقرار بسلبية المحافظة المغربية، والانخراط الجماعي في بناء مشترك يؤسس على قاعدة حداثة مغربية قوامها أنسنة مغربية، وفكر يؤسس فعلا للتعددية ويضمن حرية التعبير وحق الاختلاف، وممارسة اجتماعية قاعدتها “مركزية الإنسان”، وعمادها احترام كرامة المواطن، وتشجيع كفاءته خارج أية زبونية. هذا ما نتمناه للشعب المغربي ونحن في بداية سنة جديدة.
المصطفى بوعزيز
المستشار العام