شهدت العاصمة الفرنسية باريس، بين منتصف نونبر ومنتصف دجنبر الفارطين، حدثين شدا إليها أنظار العالم. تجسد الأول في الأعمال الإرهابية التي روعت عاصمة الأنوار، وأزهقت أرواح عشرات الأبرياء. وتمثل الثاني في قمة المناخ، التي جاءت لدق ناقوس الخطر من واقع بيئي قاتم، صار المتوقع منه أشد من الواقع.
نعتقد أن ثمة ما يجمع بين الحدثين، وإن ظهر أنهما متباعدين. فأساس الأول هو الغلو والتطرف، فيما الثاني لا يجد تفسيره بعيدا عن هذين الأمرين. فمن يغتال الإنسان رأسا، وبدم بارد، كمن يخنقه بعد حين، إثر تلويث بيئته. وهو أمر يسائل الضمير العالمي في زمن العولمة، حيث انهيار منظومة قيم بكاملها، وتلاشي الرمزي أمام جبروت المادي.
لا نعتقد أن الاهتمام بموضوع المناخ مجرد ترف فكري لقوم أدركوا الضروريات والكماليات، وحققوا الإشباع، يبحثون فقط عن تزجية الوقت بأمور ليست بالضرورة في صلب اهتمام أمم أخرى، ما زالت تقاتل من أجل لقمة العيش. بل نرى الهم واحدا، لأن المعني والمستهدف واحد، هو الإنسان، بقطع النظر عن وطنه أو جنسه أو لونه أو عرقه. وأصل الداء في المناخ كما الإرهاب كما السياسة ثقافي بامتياز، ما دام النزال بين المادي والرمزي في صيرورة تطور الغرب، حتى لا نقول البشرية جمعاء، حُسم لفائدة الأول.
لم يخرج المغرب عن هذه القاعدة، فالاحتباس الثقافي فيه شارح ومفسر لأعطاب كثيرة. فحالة النكوص الثقافي التي برزت بشكل صارخ في العقدين الأخيرين، أنتجت نزوعا نحو الاستسهال والاسترخاص والتبخيس في كل شيء.
في زمن كانت فيه للإنتاجات الثقافية بوصلتها، كان للثقافة معنى، بل كانت لها دالة على مختلف مناحي الحياة. في زمن الاستعمار جاء الإنتاج الثقافي بحمولات نضالية ضد المستعمر، وتقاطع العمل الثقافي مع العمل الوطني. وجرى تأسيس مجموعة من الأندية والجمعيات الثقافية، كلما اشتد الحصار على العمل السياسي. وحضر العمل الوطني في المسامرات الثقافية بالثانويات منذ عشرينيات القرن الماضي، كما ظهرت أندية فنية وجمعيات مسرحية للتعبير عن مواقف وطنية.
شرعت التعبيرات الثقافية للحركة الوطنية المغربية في الظهور، في شكل مجلات، منذ منتصف الثلاثينات من القرن الماضي. فبعد مجلة السلام التي ظهرت بالمنطقة الخليفية سنة 1933، جاء دور مجلة المغرب الجديد، سنتين بعد ذلك وبنفس المنطقة، لتعرف نفسها على أنها “لسان حال المثقفين المغاربة”، و”مرآة للنهضة الفكرية المغربية”، و” صلة وصل بين القديم والحديث”، و”مرآة الحركة الفكرية في الشرق والغرب”. أما في المنطقة السلطانية، وتحديدا بمدينة الرباط، شرع الفقيه محمد غازي، سنة 1942، في إصدار مجلة رسالة المغرب، التي قدمت نفسها لقرائها باعتبارها مجلة تهتم بـ”العلم والأدب والاجتماع”، بل أصبحت لسان حال حزب الاستقلال على المستوى الثقافي. فتعرضت للتوقف، عشر سنوات بعد انطلاقتها، إثر وصول عملية شد الحبل بين الحزب والإقامة العامة أوجها. وبين المنطقتين الخليفية والسلطانية، كان الوعي بأهمية العمل الثقافي جليا، كمدخل للنهوض والارتقاء. ذاك كان ديدن عبد الله كنون، وهو يدون منذ نهاية الثلاثينات من القرن الماضي كتابه المعنون بـ”النبوغ المغربي في الأدب العربي”. وهو نفس الهم الذي حمله سعيد حجي، صاحب “شباب غفل”. فتم اقتباس بعض أدوات المستعمر، من صحافة وأندية ومدارس وغيرها لتنوير العقول، ومحاربة الجهل والتخلف.
بعد الاستقلال، بدأ بعض الوطنيين المغاربة يفكرون في طرح مشاريع ثقافية جديدة، تسهم في بناء المغرب المستقل، للالتحاق بالثقافات المتحررة والحديثة. برزت في هذا الشأن “جمعية الأديب”، التي رامت الحضور الثقافي اللافت من خلال منبر معبر عن أهدافها الفكرية والثقافية، اختارت له اسم “رسالة الأديب”، التي أدار مجلسها وترأس إدارتها محمد الحبيب الفرقاني، وصدر عددها الأول بمدينة مراكش في يناير 1958. رامت “رسالة الأديب” التعبير عن الظرفية التي ظهرت فيها، وانفتحت على أصناف الأدب المتعددة، وسعت لتكون منبرا للمرأة والرجل معا، وجسر تواصل بين الشرق والغرب، لكن من سخرية الأقدار أن السياسة مثلما جزأت النقابة، خنقت الثقافة أيضا. ذلك أن خروج الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من رحم حزب الاستقلال، لم يؤد فقط إلى انشطار نقابي سنة 1960، بل إن الهزة الارتدادية لهذا الحدث السياسي كانت أسرع على المستوى الثقافي، وأدت إلى توقف مجلة “رسالة الأديب” في ماي 1959.
بعد الفرز السياسي، الذي حصل مع نهاية الخمسينات من القرن الماضي، ظهرت، بضع سنوات بعد ذلك، مجلات ثقافية، تطلع أصحابها إلى الإسهام في بناء مجتمع ديمقراطي حداثي، كما عبروا عن ذلك في افتتاحيات الأعداد الأولى لمجلاتهم مثل “أقلام” و”أنفاس” و”لاماليف”.
وعلى نفس المنوال، نسجت منابر ثقافية أخرى خلال العقدين اللاحقين، في زمن عادت فيه الثقافة لتلعب دور المتنفس والملاذ، في لحظات إغلاق الحقل السياسي. ليبدأ بعد ذلك مسلسل التراجع، مع هجرة دور الشباب والمسارح، وإلاغلاق المتوالي لدور السينما، و تواري العمل الجمعوي والثقافي الطوعي، لفائدة العمل المدني المؤدى عنه.
تشققت أرض الثقافة المعطاء، بعد حالة انحباس ونكوص، وتحول المنتوج الثقافي إلى بضاعة، إذ أضحى مرتبطا أكثر بالجوائز والمهرجانات. وصارت كتب تفسير الأحلام والفتاوى العجيبة الأكثر انتشارا، مقابل تراجع دور الجمعيات والاتحادات الثقافية والأدبية الجادة. واغتالت الطموحات والتطلعات الفردية الأنا الثقافي الجمعي، فساد التيه، وغاب التثقيف والتهذيب، فأطلت ثقافة العنف برأسها إما “تشرميلا” أو “تدعيشا”.
الطيب بياض
مستشار علمي بهيئة التحرير