سألني واحد من الملاحظين يشتغل طبيبا في جراحة تقويم العظام عن رأيي في مسألة شائكة، هي لغة التدريس، قبل أن يحتدم السجال حولها، ويأخذ أبعادا سياسية، سألني هذا الشخص الحصيف عن رأيي في الموضوع، فأجبت على السجية، لنتصور شخصا أصيب بكسر، ما العيب أن يستند على عكاز إلى أن ينجبر كسره… نعم قد يكون من العكاكيز ما هو أجدى، وألمع، وأفيد، ولكنه بعيد المنال، أو غالي التكلفة، ألا يكتفي الشخص الكسير بعكاز رهن البنان؟
لنكن صرحاء، لقد انكسرنا، انكسرنا حينما لم نعد ننتج المعرفة، وسعينا جهدنا أن نحافظ على جذوة روحنا، في مدارسنا العتيقة وزوايانا وجامعتنا العتيدة والعريقة القرويين، وشجانا الشعبي بالدارجة أو بالأمازيغية… ولم نتبين حجم الكسر إلا يوم هُزمنا بإيسلي، ثم توالت علينا الهزائم إلى أن وقعنا في براثن الاحتلال… واعتقد البعض منا، بعد أن حصلنا على الاستقلال، أن لا حاجة لنا بعكاز نستند إليه، وأنه يكفي أن نُحل اللغة العربية، لغة الدار، كما أسماها البعض، مكان اللغة الدخيلة أو الضرة، كما نعُتت، ألا و هي الفرنسية… كان الحماس يشفع في ذلك، وكان الصدق كذلك يتجاوز عن الأخطاء والرؤى الطوباوية.
ولكن واقع الحال كان مريعا. أفرز التعليم باللغة العربية مجموعة مقصاة من سوق الشغل، أو مهيأة للعمل خارج الأسلاك المزجية. واقع الحال أفرز لغة عربية مهلهلة، لأن ما اعتُبر تعريبا، لم يكن إلا ترجمة حرفية من الفرنسية لم يراع عبقرية اللغة العربية. ويمكن أن أعطي أمثلة عدة، لتعابير تترد في الإعلام آناء الليل وأطراف النهار، لا تعني شيئا إلا من حيث كونُها عربية النطق، لا غير، أو ما أسماه البعض بالعربوفونية… ويمكن أن نقف على طريق تعليم المواد العلمية كيف تمت عندنا. يُكتب سؤال المعادلة الرياضية أو الكيميائية من اليمين إلى الشمال، وتكتب المعادلة أو الصيغة الكيماوية من الشمال إلى اليمين… ما اعتُبر تعريبا لم يكن تعريبا، ولم يكن ناجحا، بل كان كارثيا.
هل مناداة البعض بتعليم المواد العملية باللغة الفرنسية ازدراء للغة العربية وإزراء بها؟ نعم، هو كذلك إذا تمت التضحية بها كلية، وإذا دُرّست باستخفاف، ولم تُراعَ عبقريتها، ولم تُلقن للناشئة حتى تكتسب مما يسميه ابن خلدون بالملكة في غضارة العمر. ولكن أن يزاوج المرء بين تعلم اللغة العربية، والانفتاح على العلوم بلغاتها، هو إغناء للّغة العربية، وهو كسب للمعارف من مظانها، هو سعي لسرق نار المعرفة، كما تدعو أسطورة برومثيوس الإغريقية.
حجة البعض، وهي حجة وجيهة، أن اللغة الفرنسية متجاوزة من قِبل اللغة الإنجليزية، و هو الأمر الذي لا يتناطح فيه عنزان كما يقول المثل العربي. لا يمكن أن نبلغ العالمية إلا باللغة الإنجليزية، ولا بد أن نسعى سعينا لنوسع تداول الإنجليزية على نطاق أوسع. ولكن المسألة ليست قرارا بل مسارا، وقضايا التربية والتعليم، مثلما نعلم، لا تحُل في الزمن القصير، وهي تستلزم الأناة والروية. وتفترض الحصافة أن ننظر إلى واقع الحال، مثلما أشار باحث جهبذ، العالم الانتروبولوجي عبد لله حمودي، وهو المحاضر في الجامعات الأمريكية، المالك لناصية اللغة الإنجليزية، أننا لا نستطيع أن ندير ظهرنا لواقع الحال، لتراث تراكم باللغة الفرنسية، لبنية ثقافية مستشرية، لشرائح عدة تشتغل باللغة الفرنسية في قطاعات حيوية.
لقد قلت مرة، فيما كتبت سالفا، بأن اللغة الفرنسية إحدى أدواتنا للتحديث، وأن اللغة الإنجليزية سبيل العولمة وأداتها، ولكن العولمة تقتضي من الشخص أو المجتمع أن يكون عصريا، أولا، وإلا دخل العولمة بشكل فلكلوري، أو فج، بله أرعن… إن دفاعي عن تعليم المواد العلمية باللغة الفرنسية، أسوة بالكثيرين، ليس نابعا من استيلاب ثقافي، أو جهل للغة العربية أو إزراء بها، أو دفاع عن لوبيات، أو ما شابه ذلك. إن دفاعي عن ذلك نابع من شيء أشاطر فيه الكثيرين أن ذلك من مصلحة تعلمينا وبلدنا.
إن إحدى أروع ما نرتبط به من تراث القول المأثور، “الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها التقطها”، أو ما تضمنه الحديث الشريف، من دعوة لطلب العلم ولو في الصين. أي أن نتكبد الصعاب، ليس المادية وحدها، وهذه لم تعد اليوم مشكلا اليوم لبلوغ الصين، بل الصعاب النفسية، أي الالتماس المعرفة حيث توجد، بغض النظر عن الجرح الوجودي أو ما نعتبره هوية راسخة.
إن قضية إصلاح التعليم والتدريس باللغة الفرنسية ليست قضية تهم وزير التربية الوطنية وحده، ولا هي مسألة تُختزل في سجال قانوني حول الاختصاصات، هي قضية استراتيجية تتجاوز المرجعيات الحزبية لفائدة المصلحة العليا للأمة المغربية… تُحل في هدوء، بلا صخب، ولا تجييش، ولا دعاوى تخوين، ولا غوغائية، تُحل من لدن ذوي الخبرة الذين تهمهم مصلحة الوطن وبنيه، وتحسم من المؤسسة المؤتمنة على القضايا الاستراتيجية للبلد. إنها فرصتنا الأخيرة لإصلاح التعليم. لن تكون هناك فرصة أخرى إن أخلفنا هذه. إن التمادي في الجهل هو الفتنة الكبرى التي ما بعدها فتنة.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير