عندما شبهت في زاويتي بـ“زمان“ الفرنسية عدد (127) وضعية الناس بمخيمات تندوف بتلك التي عاشها أبناء عمومتهم في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تحت قيادة الشيخ ماء العينين، كنت وكأني أتنبأ بما سيحدث الآن .قلت إن المجاهدين الذين فضلوا الانخراط في مشروع الشيخ، لم يكونوا يعلمون ما يخبئه لهم الزمن .كان ماء العينين قد طلب من أتباعه الاختيار بين الجهاد ضد المتدخل الفرنسي، باعتباره نصرانيا، أو الهجرة إلى أرض ما زالت لم تطأها أقدام الكفار حسب رأيه. ساقهم من نهر السينغال نحو شمال المغرب في مسيرات مضنية وطويلة، فقدوا فيها ذويهم ومواشيهم وكل أسباب الرزق، ليجدوا أنفسهم بعد هزيمة سيدي بوعثمان على أيدي القوات الفرنسية مشردين يتسولون في الجبال والوهاد الغربية للإمبراطورية الشريفة كما كان يسمى المغرب آنذاك .انسحب الشيخ إلى تارودانت وتفاوض مع المستعمر الفرنسي على أدق تفاصيل المزايا، بل حتى على نوع السيارة وكلفة العيش الباهظة له ولحاشيته .وفي ذات الزاوية، كنت قلت إنه بعد ما يقارب الخمسين سنة على طلب جماعة البوليساريو لجزء من ساكنة الصحراء بأن يتبعوها بنفس حجة “الجهاد أو الهجرة“، ها هم يعيشون الفاقة في أعلى تجلياتها كما عاشها بنو عمومتهم ممن تبعوا الشيخ ماء العينين.
الذين ولدوا سنة ،1975 ظلوا ينتظرون العودة لبلدهم ليعيشوا في كنف جمهوريتهم كما وعدهم بذلك زعماؤهم، لكن كل ما رأوه هو أن الزعماء أنفسهم يطلبون منهم تأجيل كل المطالب: فـ“العبد“ بقي “عبدا“ في انتظار العودة، و“الحرطاني“ بقي “حرطانيا“ في انتظار العودة، والركيبات بقوا أهل الحل والعقد في انتظار العودة… لكن ساعة العودة لم تدق. كل ما هو مطلوب من سكان المخيمات القيام به هو أن يبرزوا مظاهر بؤسهم لاستدرار عطف المنظمات الدولية. «كلما أظهرتم أنكم بؤساء كلما توصلنا بالمساعدات»، وكأني بزعمائهم هكذا يقولون؛ بينما إخوتهم وبنو عمومتهم الذين فضلوا البقاء في الصحراء، شهدوا تحولا كبيرا في طريقة عيشهم، وتحسنا في وضعيتهم الاجتماعية. فالكل يحمل بطاقة وطنية تعطيه الحق في الانتماء لجمعية، أو الترشح للانتخابات، أو التنافس على الارتقاء الاجتماعي المادي والمعنوي. بحيث لا وجود للعبيد كطبقة داخل المجتمع، ويمكن “للحرطاني“ أن يصل إلى مسؤولية مهمة في حزب عريق حتى ولو كان منافسه من الفئات التي تمسك برقاب الناس سواء في الصحراء أو في المخيمات.
تمر السنون وتتآكل الإيديولوجية التي تأسست عليها جمهوريتهم، ويتساقط الزعماء الواحد تلو الآخر كما حدث في نهاية الاتحاد السوفياتي، وشاخ الشباب الذين ولدوا في المخيمات، وتساقط الشعر، وفرغ الفم من الأسنان، واستوطنت الأمراض، ولكن ساعة العودة لم تدق بعد.
لم تدق ساعة العودة، لكن صرخة اليأس أصبحت تدوي ومن يطلقها اليوم هم الزعماء أنفسهم. ولعل ما جاء في الفيديو الذي يتحدث فيه مصطفى سيد البشير «وزير الجاليات في جمهورية تندوف»، والمنشور في وسائل الإعلام خلال الأسبوع الثالث من شهر دجنبر ،2021 يوضح بما لا يدع مجالا للشك من أن الجمهورية لا وجود لها، وأن المواطنين الموجودين فوق الرمال المتلاطمة في زمهرير تندوف ملوا الحياة هناك. لا يتعلق الأمر بالتشفي، بل بالعكس نحس بألم عميق عند سماعنا لما جاء في حديث سيد البشير .أهلنا هناك يعيشون على التسول، وهو ما أكده بعبارة «نطلب من الجزائر كل شيء، الدواء، التطبيب، الخبز، الكازوال، الدراسة، السفر …يجب أن لا نكذب على أنفسنا، أنا لست وزيرا، وإبراهيم غالي ليس إلا لاجئا في أحد المخيمات وهو مسجل لدى وكالة غوت اللاجئين». كلهم متسولون عند الجزائر وعند المنظمات الدولية.
نتألم لجمهور مهم من الصحراويين الذين يعيشون في انتظار ما سوف تمنحهم إياه دولة الاستقبال على أن يبقوا رهينة وورقة في يد الجيش الجزائري، يستعملهم للضرورة ضد المغرب.
ولكن إلى متى؟ إلى متى سوف تدوم هذه التراجيديا؟ لا يتعلق الأمر بتدبيج التحاليل والمقالات والخطب السياسية حول مآل القضية الصحراوية واستراتيجيات صراع القوى الخارجية والداخلية؛ يتعلق الأمر بمشكل إنساني وبمواطنين مغاربة يعيشون منذ ما يقارب الخمسين سنة خارج التاريخ. اليأس الذي عبر عنه سيد البشير هو نفسه الذي يدفع بشباب ومراهقين من المخيمات إلى حمل سلاح لا يحسنون استعماله والزج بأنفسهم في مواجهة السلاح المغربي عندما يقتربون من الجدار الأمني دون أدنى حماية.
الحل الوحيد المتبقي لسكان تندوف هو العودة.
والحل الوحيد المتبقي للبوليساريو وزعمائه هو العودة والتفاوض على العودة أو الموت.
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير