وُصِف الحكم الصادر عن المحكمة الابتدائية بطنجة، والقاضي بإثبات نسب طفل لأبيه، نشأ عن علاقة غير زوجية، بالحكم التاريخي .وهو كذلك بدون شك، إذ يحقق لأول مرة مصلحة الطفل ووالدته. قبل ذلك جرى العرف، على ما يبدو، بإنكار حقوق الأطفال والأمهات، الحلقة الأضعف، في مثل هذه النزاعات. إذا صحت البيانات الإعلامية المتعلقة بهذه القضية، فإن تضييع مصالح الأطفال الناشئين عن علاقات غير زوجية، كان يتم رغم وجود دليل مادي يثبت علاقة الأبوة، متمثلا في تقارير الطب الشرعي. هكذا، يؤول القانون تأويلا، سلفيا، يجعل القاضي يحكم وفق ما يعتبره تطابقا مع معيار ديني معين، يفترض أن القانون مستمد منه في الأصل، ويجب أن ينضبط له.
على النقيض من ذلك، نهج الحكم القضائي الصادر في طنجة منهج تأويل علماني للقانون. لا ينبغي التردد في استعمال هذا النعت بالذات، إذ يتخذ هنا معناه الحقيقي: أولوية الدليل المادي وأهميته الحاسمة، ما دام يحقق العدالة، أي حفظ مصلحة الطفل ووالدته، وما دام القاضي قد اقتنع بأن إثبات هذا النسب هو الذي يحقق العدل في هذه النازلة .وهذا الدليل ليس سوى تقرير الطب الشرعي .إنه بذلك أقرب من غيره لحقيقة الدين وعمقه، أو ليس العدل حقيقة الإسلام وقيمته الجوهرية؟
العلمانية، إذن، ليست سوى مسألة منهج، طريقة في التفكير عمادها أن الحقيقة نسبية. ثمة حقيقة نشأت في سياق تاريخي اجتماعي اقتضى وضعا معينا للأطفال المولودين خارج إطار الزواج، ثم اكتست طابعا مقدسا منذ أن صارت معيارا دينيا، لتغدو مطلقة تنطبق على كل السياقات المماثلة مهما اختلفت الظروف والأزمنة .لذلك يجد السلفيون أنفسهم عاجزين عن التفكير خارج إطارها. قد يكون المرء مقتنعا، تمام الاقتناع، أن حرمان طفل من حقه في أن ينفق عليه والده ظلم ما بعده ظلم، لكنه يكتم هذه القناعة ويبحث عما يناقضها، لأنها في تصوره تتناقض مع المعيار الديني المطلق…
الحل الذي يتم اللجوء إليه، في الغالب، يكون توفيقيا، يسعى لقبول ما لا يمكن صده من فروض المعاصرة، محاولا لجمها في نطاق ما يمكن استعماله من قيود الأصالة .لعل أبلغ تعبير عن هذا الجهد الجهيد في التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، في سياق قضية طنجة هاته، هو ما صدر عن أحمد الريسوني، أحد المنظرين الأصوليين، تعليقا على هذا الحكم. يستند الريسوني على المصادر السلفية ليقرر مطمئنا أن “جمهور الفقهاء قديما” أثبتوا نسب “ولد الزنا لأمه دون أبيه، لكون بُنوّته لأمه معلومة قطعية، بخلاف نسبته للأب، ففيها ما فيها من شكوك وتنازع. فلذلك عنهم لا ينسب ولد الزنى للزاني“، دون أن يغفل المعطى الجديد “الذي لم يألفه فقهاؤنا“، والمتمثل في إمكانية التحقق العلمي والطبي من نسبة المولود لوالده…
ثم ينكر، مستغربا، حكم القضاء بالتعويض للأم ما دامت، في رأيه “شريكة في جريمة الزنا“. هكذا يغيب حق الأم في التعويض المادي لرعاية طفلها، عن ذهن الريسوني تماما، فكل ما يهمه هو أن يوافق رأيه المعيار الديني، كما يفهمه ويؤوله، ولو تناقض مع جوهر الدين: تحقيق العدل.
إسماعيل بلاوعلي