تنتهي السنة كما بدأت على وقع الإرهاب. تنتهي والعالم غارق في بحر من الدماء، وفي بحر الحاضر الدائم. أصبح الزمن آنيا، والذاكرة قصيرة أكثر من أي وقت مضى. ليس التذكر ترفا، بل الغفلة سلاح الإرهاب. التذكر يحدد المسؤوليات. أما الغفلة، فتغرق الجريمة في بحر الحاضر الآني، وتنسي جذور الشر. يسهل انبعاث الإرهاب، باستمرار، كل مرة في صورة جديدة. لا يحتاج المرء لأدنى جهد ليتذكر أن ما نعيشه اليوم صورة مطابقة تماما لما حصل بالأمس القريب في أفغانستان. لكن زمن “الموجز الإخباري”، و”البث الحي”، و”الزابينغ”، و”Tweet”… يغرق الجمهور في الحاضر الدائم، تصبح المآسي فرجة، وتضيع فرص التذكر، وتحديد المسؤوليات. لقد تشكلت البنية التحتية لإرهاب “داعش” بنفس الطريقة التي تشكلت بها بنية “القاعدة” في السبعينات من القرن الماضي. دعوة عالمية لـ”الجهاد”، تطلقها الولايات المتحدة الأمريكية، عن طريق حلفائها في السعودية والعالم الإسلامي السني، فيتجمع “المتطوعون” من كافة أنحاء العالم، تتشكل منظمة مسلحة، تنتشر عناصرها في أطراف العالم، ثم سرعان ما تنقلب على صانعيها، ويصبح “المجاهدون”،”إرهابيين”.
ابتداء من يونيو 2013، على الأقل، يعيش العالم نفس القصة. الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يجتمع في القاهرة، يصدر بيانا رسميا يعلن “وجوب النفرة والجهاد لنصرة إخواننا في سوريا بالنفس والمال والسلاح وكل أنواع الجهاد والنصرة”. تشكلت المنظمة الإرهابية التي سمت نفسها “جبهة النصرة”، تجسيدا لمفهوم “النصرة” الوارد في دعوة العلماء. ثم تلتها المنظمة الأكثر دموية “داعش”. كلهم لبوا نداء “النفرة” الذي أطلقه العلماء باسم الدين. لأسباب معروفة نظمت الولايات المتحدة وحلفاؤها في قطر والسعودية وتركيا… وفرنسا هذه العملية، بدعوى إسقاط بشار الأسد. حتى أنهم صاروا يسمون إرهابيي النصرة “معتدلين” مقارنة بإرهابيي “داعش”!
ليست هذه البنية التحتية للإرهاب سوى الجذور الظاهرة للشر. جذوره الأكثر عمقا تمتد بعيدا في ماضي المسلمين. لولاها لما استطاع “علماؤهم” تبرير ما دعوتهم لما يسمونه “جهادا”. العقلية الأصولية المتشددة هي منبع الشر، وهي التي تهمنا في المغرب، أكثر من مستجدات الظروف الحالية. الإيديولوجيا، التي تنطوي عليها دعوة “الجهاد” في سوريا، تعبر عن تصور معين للتاريخ. يعتبر أن الحقيقة، كما يفهمها دعاة “الجهاد” أولئك، ثابتة مطلقا. أي صالحة لكل زمن، وأن المسلمين كانوا ويجب أن يظلوا دائما “أمة” واحدة، وأن “الجهاد” أمر إلهي نافذ إلى يوم الدين.
أطروحة بسيطة غاية في السطحية، لكنها منسجمة ومتماسكة. تحمل تسميات متعددة: وهابية، سلفية، أصولية… لحسن الحظ أنها هامشية، لا تشغل حيزا هاما من المجال الثقافي والسياسي للمسلمين. لكن خطورتها تكمن، تحديدا، في تماسكها وسطحيتها الشديدة. مثل كل الأفكار الإطلاقية الفاشية، يسهل انتشارها والتعبئة حولها. ماذا قال هتلر سوى أن “العرق الآري” كان أمة واحدة، متفوقا على الجميع، ويحق له استعادة هذا الماضي؟ ماذا يقول الصهاينة سوى أن “اليهود” كانوا أمة واحدة، يحق لهم التجمع في دولة واحدة، ولو على حساب الآخرين؟
يكفي توفير المال والخطباء المفوهين، خاصة في ظروف الظلم وفقدان الأمل، ليتعبأ ضعاف العقول حول هاته البينة الفوقية للإرهاب. كيف لهم أن يدركوا أنهم إنما ينتحرون ويدمرون العالم، لمجرد أنبوب غاز يمتد من الخليج إلى أوربا؟ أو حقل يورانيوم في إفريقيا؟ أو ما خفي من مصالح الآخرين؟ كيف تقطع جذور الشر؟
ليس هناك سوى سبيل وحيد. الانتقال للزمن الحديث، زمن الحقائق النسبية، حيث يعي المسلمون حقيقتهم انطلاقا من الواقع، وليس من المأمول أو المفترض. ليدركوا مثلا أن “الأمة” الإسلامية وهم لا أساس له، وأنهم في الواقع مواطنون كل في دولته الوطنية، لا رابط بينهم سوى استقبال القبلة للصلاة.
إن الجهاد – حتى إذا صح اعتباره واجبا دينيا – ما عاد ممكنا اليوم. ليس فقط لأن نشر الإسلام متاح في دول العالم العلمانية، حيث لا فرق بين دين وآخر، بل لأن العدوان على الغير صار جريمة يعاقب عليها القانون الدولي، وإن كان يطبق على الضعفاء فقط.
إن الإسلام لم يكن قط جامدا. السنة التي تكونت باسمه، كل وفق تأويله، هي الجامدة. حتى أثناء نزول الوحي كان الإسلام نسبيا، إذ تنسخ آية جديدة، آية سبقتها، لتغير الواقع الذي نزلت فيها الآية المنسوخة.
إن العلمانية، التي ليست سوى تعبير عن الفكر النسبي، متحققة في واقع أغلبية المسلمين، إذ ينظمون تفاصيل حياتهم الخاصة والعامة، بناء على قوانين وضعية متغيرة كلما تغيرت الظروف، أو انتخب برلمان جديد، أو حكومة جديدة. ما لم تحصل هذه القطيعة في وعي المسلمين، إذ هي متحققة في الواقع، ما لم يطابق وعيهم واقعهم، ستظل التربة خصبة لتنمو جذور الشر. ما أصعب هذه القطيعة! حتى الفتوى المتنورة، في بادرة محمودة، الصادرة عن المجلس العلمي الأعلى، غداة إرهاب باريس لم تستطع إدراكها. لننظر كيف أصرت على مفارقة الواقع، حين اعتبرت أن “الجهاد بالسلاح لا يكون إلا بأمر الإمام الأعظم، إذ هو من اختصاصه وحده”. أي اختصاص هذا؟ ألا ينص الدستور بوضوح على سلطات الملك المدنية، وبينها إعلان الحرب؟ عن أي “جهاد” يتحدثون؟ أم أن أصوات المغاربة الذين أقروا هذا الدستور لا قيمة لها؟ الأصالة والمعاصرة ليست حلا. العلمانية هي الحل.
إسماعيل بلاوعلي