أضحت كلمة داعش، المختزلة لاسم الدولة الإسلامية في العراق والشام، من أكثر الكلمات التي تلوكها الألسن في المدة الأخيرة. واختلف الباحثون والمحللون في تفسير أصل وسياق ظهور هذا التنظيم، وبيئته الحاضنة، بين من فسر الأمر بتداعيات غزو العراق وحل الجيش العراقي، ومن اعتبر الأمر مجرد صناعة أمريكية لإعادة رسم جغرافية الإقليم، وإخراج الطبعة الثانية من سايس بيكو، وهناك من ربط الأمر ليس بمتغيرات الحاضر فقط، بل بمسألة المرجعية والنص والسلف. واستهوى الأمر بعض الباحثين لإجراء المقارنة بين داعش والقاعدة ليس على مستوى الإيديولوجية بل على مستوى البرنامج وسلم الأولويات، فبينما يقول التنظيم الأول بتنظيف البيت الداخلي من الروافض استعدادا لمواجهة الصليبيين والصهاينة، ترى القاعدة أن الأولوية تفرض قطع رأس الأفعى «الولايات المتحدة الأمريكية»، ليشعر الصهاينة باليتم والضعف فيسهل القضاء عليهم. ما يجمع التنظيمين فضلا عن المذهب والمرجعية هو خيار العنف، وصارت المغالاة فيه مقياسا معياريا للحشد والتعبئة وجلب الدعم وكسب الأنصار.
سبق للباحث المصري رفعت السعيد أن كتب دراسة عنونها بـ«الإسلام السياسي من التطرف إلى مزيد من التطرف». استهل خاتمتها بالقول: «والآن… لا بد أن سؤالا يثور في ذهن القارئ: أما من نهاية لهذا التطرف، وإلى متى ستظل جماعات الإسلام السياسي مؤهلة لأن تزداد تطرفا؟ والجواب… وفق معطيات هذه الدارسة سيظل التطرف في ازدياد… طالما ظلت هذه الجماعات عاجزة عن تقبل الواقع، رافضة له، وطالما أن الواقع يظل عاجزا عن مواجهتها والتصدي لها، فكريا وإعلاميا وسياسيا واجتماعيا». بعد أزيد من ربع قرن على هذه الدراسة، التي كشفت أنه كلما راكم الغرب الانفتاح والإبداع زاد منسوب الغلو في فكر هذه الجماعات، يأبى الواقع إلا أن يؤكد ما ذهب إليه رفعت السعيد.
جرى استحضار الماضي لا لقراءته وتجاوزه بل لاستبطان الأحقاد واستدعاء منطق الثأر، من الحروب الصليبية إلى الحركة الصهيونية، مرورا بفقدان الأندلس وتقسيم «الأمة» إلى كيانات قطرية مع الاستعمار خلال القرنين الماضيين. وتمت العودة بانتقائية إلى النصوص المبررة لهذا المنطق، الذي يزداد تجذرا، من موقع العجز، كلما آنس أصحاب هذا الفكر أن الهوة تزداد واليأس يتعمق والانحطاط يترسخ، فيتم الاستقواء بالماضي على الحاضر. عالج الباحث المغربي أحمد المعتصم مستويات التجاوز بين العرب والغرب، وانتهى إلى تفسير الضعف بما أسماه ثلاثية ندوب الاستعمار وهوة الانحطاط ومهانة الهزيمة. ولمعالجة هذه الأخيرة يرى أن على العرب تجاوز حاجز نفسي أسماه خيبة الهزيمة أو عقدة الهزيمة وهي ليست ممثلة فيما هو عسكري فقط، بل إحساس بالعجز على المستوى التكنولوجي والعلمي والمؤسساتي بالنسبة للضفة الجنوبية للبحر المتوسط، شعور بالهزيمة على مستوى الذاكرة والفكر والعقل والذكاء، وهو ما ولد استبطانا للدونية أمام مشاريع استعمارية بمسميات مختلفة، وبأساليب تتوزع بين العنف الرمزي والعنف المادي إمعانا في الإذلال وترسيخ المهانة والإحساس المزمن بالعجز. فكيف جرى التصدي لهذا الواقع؟
داخل بنية ذهنية تؤثث الحقل الدلالي للغتها عبارات من قبيل «دانت له الرقاب» لكي لا يرى «رؤوسا قد أيعنت وحان وقت قطافها»، استل السيف وجف القلم. وعوض الإيمان بمقولة «الثقافة سلاح فلنسلح الشعوب»، جرت عملية تجهيل ممنهجة للأجيال المتعاقبة منذ حصول معظم البلاد العربية على استقلالها، مع اختلاف فقط في نسب الأمية ومستوى شحن المقررات الدراسية، بمناهج تعليمية معاكسة للعقل والعلم والتطور. والنتيجة خلق نموذج لإنسان يحن لعصر بقر البطون وسمل العيون وجدع الأنوف وحز الرؤوس، باسم الدفاع عن الإسلام، يكفر العلم والعلماء ويعادي الإبداع والمبدعين. لا يشغل باله بالمركب والصعب والمعقد، الجواب لديه جاهز وبسيط: لقد أضعنا البوصلة يوم خرجنا عن النهج القويم للسلف الصالح، والحل أبسط من أي تعقيد: العودة لفترة النقاء واستلهام النموذج، بقطع النظر عن المتغيرات والمستجدات، التي عليها هي أن تكيف أو يجري تطويعها لتخضع للنمطي والجاهز/المستنسخ.
المثير ليس أن يكون هذا الخيار ديدن هؤلاء لكن أن يكون أيضا العلاج المقترح لاستئصالهم، مرة أخرى ينكسر القلم ويبرح السيف غمده للإجهاز على الخصم. فعوض إعلان حالة استنفار فكري ومعرفي في المناهج الدراسية والإعلامية وإطلاق دينامية كبرى للتعبئة والتثقيف والتعليم والتنوير، قد يتأخر أكلها بعض الشيء، لكن ستأتي حتما بالأنوار والنهضة في نفس الآن، فتقطع دابر الأفكار المعادية لروح العصر. تم تشكيل ما أصطلح على تسميته بالتحالف الدولي ضد الإرهاب، ليواجه العنف بالعنف. وبقطع النظر عن كون جزء كبير من مكونات هذا التحالف شكلت البيئة الحاضنة أو الممولة أو حتى المستفزة لظهور هؤلاء الأعداء الجدد، فالأكيد أن سلاحه قد يقتل منهم أفرادا أو جماعات لكن لن يغتال مشروعهم الفكري. بل على العكس، سيحشد له متعاطفين وأنصارا جدد بعد أن حول أصحابه إلى ضحية. فالقلم يخط السطور وينير العقول، والسيف يقطع الرقاب ويغذي الأحقاد.
الطيب بياض
مستشار علمي بهيئة التحرير