يتزامن صدور العدد مع تخليد المسلمين بمختلف اتجاهاتهم لذكرى عاشوراء، ومع تخصيص المجلة ملفها الشهري للحديث عن “تمغربيت”، وهو ما قدح في ذهني سؤالا تاريخيا: لماذا حين الحديث عن هذه المناسبة إما أن نتحدث عن عاشوراء السنية وإنجاء لله لنبيه موسى من الغرق -مع ما في الموضوع من إشكالات فقهية وحديثية-، أو عاشوراء الشيعية وقصة مقتل الحسين الحزينة، لكننا لا نتحدث أبدا عن عاشوراء المغربية وطقوسها الراسخة في القدم، لا نتحدث عن كل تلك الأشكال الثقافية والرمزية الضاربة في القدم، بما تؤرخ له من أحداث ثقافية ودينية واجتماعية عرفتها المنطقة، وبما تكتنزه من طقوس وممارسات واحتفاليات عريقة جدا، مع كل ما تحمله من قيم ومشاهد ثقافية كانت حتى قبل قدوم الإسلام واستقراه بالمنطقة.
عاشوراء في تاريخ المغاربة مختلفة عما كان عليه الحال ولا يزال بالمغرب، طقوسها وتعابيرها واحتفالاتها تركيبة من الأصول الدينية والاجتماعية المتعددة والمتنوعة في منابعها وجذورها وسياقاتها، اختلط فيها الوثني باليهودي والإسلامي بشقيه السني والشيعي، وامتزج فيها البرغواطي بالأمازيغي وبالعربي، لا يتذكر الكثير ما وقع بصحراء الطف في مثل هذا اليوم، وما عاشته ذرية النبي عليه السلام على يد جيش يزيد بن معاوية الأموي، كما لا يستحضرون في غالبهم أن هذا اليوم نجى لله فيه موسى من فرعون حسب الرواية السنية، لا يعرفون من ذلك اليوم إلا طقوس الفرح وإعلان الاحتفال، يقتني الذكور المسدسات المائية والمفرقعات، ويقبل الإناث على الدمى والبنادر والطعاريج، ويجتمع شباب الحي ذكورا وإناثا لجمع العشور والمؤونة من الناس، من قديد وبيض ودقيق ومال، مع ترديد أهازيج الفرح والبهجة.
تقتسم الفواكه الجافة بين أفراد العائلة، ويتوزع جزء منها على المقابر والأضرحة، وتوقد النار فيجتمع حولها الأطفال، وتتحلق حولها النساء كرمز للتخلص من الذنوب وسوء الحظ، ويشعلها الأطفال ويقفزون حولها فيما يعرف بـ”الشعالة”.
يحضر الماء بقوة في مثل هذا الاحتفال، بما له من دور في إنتاج عدد من البنيات الثقافية والاجتماعية الخاصة بهذه المنطقة، فترش أرجاء المنازل بالمياه، وتعج الأحياء والأزقة بمظاهر رش الماء ضمن لعب جماعي يتضمن كثيرا من المرح والفرح الذي تدونه الذاكرة الجماعية للمغاربة.
لا يغلب المغاربة جانب الديني في عاشوراء، بقدر ما يرون فيها طقسا اجتماعيا ومناسبة للفرح والاحتفال، صنعوا عاشوراء المغربية، كما أسسوا لأنفسهم قبل ذلك إسلامهم المغربي، حتى قال المستشرق المشهور جاك بيرك: «تمزغ الإسلام أكثر مما أسلم الأمازيغ، بنى المغاربة لأنفسهم إسلامهم الخاص تبعا لعاداتهم وتقاليدهم وخصائصهم البيئية والتاريخية، حتى ابتكروا أصولا للتشريع لا عهد للمشارقة بها إلا نادرا، اعتمادا على خصوصية المناطق داخل المغرب نفسه وتنوع عاداتها، فابتكروا ما جرى عليه العمل بفاس، وما جرى عليه بسوس، والعمل المراكشي، وعمل تطاوين، وتمكنوا من صناعة نموذج فيه كثير من الاعتدال والتسامح والتعايش، بحكم واقعي يشهد له التاريخ، وليس من قبيل البروباكَندا أو الدعاية المجانية».
لهذا كله أتساءل، هل هؤلاء المشارقة الذين يسعون لتعميم نموذجهم على كل بقاع العالم مهما اختلفت في خصوصيتها وطبائعها، ومن معهم من الأتباع والمطبلين، يعرفون شيئا عن تاريخ هذا الشعب، أو عن عاداته و أعرافه، أو عن طرائق عيشه وأساليبه؟ لا يعرفون شيئا عن أكله وملبسه وأعياده وأحزانه وكل طرق عيشه وعوائده، لا يعرفون شيئا عن أصول هذه العادات ولا صيرورتها عبر الحقب والأزمان، ثم يسمحون لأنفسهم بممارسة الأستاذية على شعب عريق في التفاعل مع الحياة بتنوع وتعدد.
لا أفهم أيضا لماذا يريد البعض إقحام المغاربة في صراع شيعي-سني لا قبل لهم به ولا يمثل جزءا من تاريخهم، ذلك التاريخ الذي احتضن الزيدية الفارين من جور بني عباس، ومنح للفاطميين تأسيس أول دولة لهم بشمال إفريقيا، واحتضن المذهب المالكي السني والعقيدة الأشعرية وتبنى تصوف الجنيد السالك، فلا يمكن بأي حال إقحام مثل هذا التراث الزاخر في صراعات مشرقية طائفية، وحروب بعيدة عن كل سياقاتنا التاريخية والجغرافية.
خلاصة الكلام، أن عاشوراء ملك للمغاربة، وأنها صورة جلية لـ”تمغربيت” التي تجتمع تحتها مختلف الأديان والملل والتوجهات والأعراق، ومن يحاول بها التفريق أو بث الفتنة، فهو لا يعرف شيئا عن المغرب ولا المغاربة.
محمد عبد الوهاب رفيقي
كاتب رأي