تصلني أخبار من عمق الجنوب ومن تندوف وما جاورها من قبائل، تفيد بتحول عميق في المزاج العام، وبداية جدية لتفكير لم يكن من السهل تصوره قبل سنوات فقط .تفكير فيما بعد البوليساريو، وما بعد ما يسمى بالجمهورية الصحراوية، ذلك الكيان الذي ظل قائماً لما يقارب الخمسين سنة، مستنداً على خطاب التحرر والانفصال، لكنه تحول مع الوقت إلى عبء على ساكنة المخيمات، بل وعلى جوارها بأسره. ما يدعو للتأمل أن هذا التحول لا يأتي بفعل هزيمة عسكرية، ولا بفعل ضغط خارجي مباشر، بل ينبت من الداخل، من قناعة متنامية وسط الناس العاديين، وسط القبائل، وأبناء المخيمات الذين تعبوا من الانتظار، وتعبوا من الشعارات. فهم اليوم أكثر انتباهاً للمستقبل، وأكثر استعداداً للاستماع لما يمكن أن يشكل أفقاً للخروج من هذا الانسداد الطويل. وما يظهر جلياً من هذا الحراك الهادئ أن المقترح المغربي للحكم الذاتي بدأ يكتسب جاذبية حقيقية، ليس فقط لكونه مدعوماً من قوى دولية وازنة منها أمريكا، ولكن لأنّه ينسجم مع الحس العملي واليومي للناس الذين يريدون كرامة واعترافاً وفضاءً يعيشون فيه دون توتر مستمر.
الحكم الذاتي، كما تراه هذه المكونات القَبَلية، ليس فقط مشروعاً سياسياً، بل هو مقترح اجتماعي وثقافي، يعترف بخصوصيتهم، بلغتهم، بطرق عيشهم، بتقاليدهم، ويدمجهم في نسيج أوسع لا يسحقهم، بل يحتضنهم. وبهذا المعنى، فإن لمّ الشمل لا يُفهم هنا باعتباره خضوعاً أو تنازلاً، بل عودة إلى البيت، إلى الأصل، إلى الامتداد العائلي والقبلي الذي سبق وأن تمزق بفعل المدة الطويلة للاستعمار والصراع السياسي المفتعل .بعض هؤلاء يتحدثون الآن عن ضرورة المبادرة، عن أن هناك رغبة في أن تبادر مكونات من القبائل (ومنها الحاملة للجنسية الجزائرية) المحيطة بتندوف إلى إعلان الانضمام إلى هذا المشروع، في شكل تصالح مع الذات، وفي شكل تصحيح شجاع للماضي. ومن الملفت أن هذه الرغبة لا تقتصر على القواعد، بل أن بعض قادة البوليساريو أنفسهم، ممن تعبوا من الجمود ومن الخطابات المتكلسة، يدفعون في هذا الاتجاه، وينتظرون فقط إشارات إيجابية من الطرف الآخر: من المغرب. إنهم يعرفون أن المخارج لا تُفرض، وإنما تُبنى بالتدريج، وأن الرغبة في لَمِّ الشمل يجب أن تُقابل بالكرم السياسي، وبالحكمة، وبالتفهم العميق لمآسي عقود من الانقسام والتشظي. لمّ الشمل، في هذا السياق، ليس شعاراً رومانسياً، بل هو ممارسة معقولة لإعادة بناء النسيج الاجتماعي والثقافي للقبائل الصحراوية التي عانت كثيرا من الإبعاد بسبب الاستعمار الفرنسي أولا ثم بسبب النظام الجزائري، الذي تضرر كثيراً. وهو أيضاً، وربما أساساً، نداءُ تعبٍ من ساكنة لم تعد تقبل بأن تكون رهينة في يد قيادة تأسست على فكرة الجهاز البيروقراطي البعيد عن آلام الناس وآمالهم. لمّ الشمل هو الاعتراف بأن العقود الخمس الماضية لم تكن كلها انتصارات ولا كلها هزائم، وإنما كانت مساراً معقداً فيه ما يجب أن يُحفظ وفيه ما يجب أن يُتجاوز.
وفي خضم هذا التحول، تبدو تندوف اليوم، أكثر من أي وقت مضى، على عتبة تحوّل تاريخي. لم يعد ممكناً الحديث عن الجمود، عن الثبات، عن استمرار الوضع كما هو. هناك حركة في العمق، هناك تساؤل، وهناك، فوق كل ذلك، إرادة في أن تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي. إرادة لا تخلو من الحذر، ولا من الخوف من خيبات جديدة، ولكنها، رغم كل شيء، إرادة تنبني على الحنين إلى التلاحم الإثني والأنثروبولوجي، إلى الروابط التي سبق أن مزّقها الاستعمار في الماضي والصراع في الحاضر.
المغرب، من جهته، مدعو لأن يصغي جيداً لهذا الصوت الآتي من الجنوب، وأن يتصرف بما يُطَمْئِنُ، بما يُشعر هؤلاء بأن ماضيهم ليس خيانة لتاريخهم، وأن عودتهم ليست استسلاما لقوة ما وإنما خضوعا لمنطق العقل، ومصالحة مع المستقبل .إنّ مشروع الحكم الذاتي في الصحراء قد يكون اليوم في لحظة مفصلية، لحظة انتقال من كونه مبادرة دبلوماسية إلى كونه أفقاً حقيقياً للعيش المشترك. في نهاية المطاف، لمّ الشمل هو نداء إنساني قبل أن يكون سياسياً. نداءٌ للعودة إلى الأرض، إلى الأهل، إلى اللغة المشتركة، والمرجعيات المتداخلة. وإذا ما أُحسن استثماره، قد يتحول إلى لحظة نادرة من لحظات البناء الكبرى، التي لا تحدث كثيراً في التاريخ، لكنها حين تحدث، تغيّر كل شيء. من الأكيد أن المغرب سوف يطرح أولا غربلة ساكنة المخيمات والتحقق ممن ينتمون للقبائل الصحراوية التي ارتبطت تاريخيا بالمغرب ومن يُعَدُّون من الإخوة الأفارقة الذين احتجزتهم ميليشيات البوليساريو لنفخ أعداد ما كانت تسميهم باللاجئين. ولكن ولنكن صرحاء، حتى الإخوة الأفارقة الذين لم يكن لهم دور سلبي ضد المغرب فمن الواجب على السلطات أن تنظر في وضعياتهم، وأن تدرس كل الحالات واحدة بواحدة حفاظا على سمعة المغرب وإسهاما في إغناء الثقافة المغربية التي كانت دائما تسمح للأفارقة بالانصهار في نسيجها المجتمعي.
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير