تشاء الصدف أن تعيش بلادنا لحظة سياسية قوية أياما قليلة بعد انتخابات 7 أكتوبر 2016. صدفة مفجعة تمثلت في المأساة التي حصلت في الحسيمة، لتتحول إلى لحظة سياسية، لا تقل قوة عن لحظة الانتخابات. لعلها المرة الأولى التي يلبي فيها المواطنون بكثافة نداء للتظاهر، لم يصدر إلا قبل ساعات قليلة على الأنترنت، ولم تواكبه تعبئة فعلية على الأرض. بديهي أن ألم الفاجعة هو الذي أخرج الناس للشوارع على امتداد مدن المملكة. الأكيد أنهم خرجوا، أيضا، للتعبير عن سخط عارم يتجاوز حدود مأساة الحسيمة. مظاهرات يوم الأحد 30 أكتوبر إدانة صريحة للكثير من الأوضاع السياسية الفاسدة في البلاد، أكثر من كونها إدانة لما وقع في الحسيمة. تعبير صريح عن نزع أية مصداقية عن الدولة، عن تحقيقاتها ومؤسساتها الأمنية والقضائية وإعلامها… ورد بليغ على كل ما صدر عنها استخفافا برأي المواطنين، واحتقارا لذكائهم. ليس صدفة أن يخرج الناس بتلك الكثافة للاحتجاج على “الدولة” بعد الذي عاشوه طيلة الأشهر التي سبقت الانتخابات التشريعية الأخيرة. عندما تتورط الدولة علنيا في كل العبث الذي سبق تلك الانتخابات، وعندما يتوثق ذلك في فيديوهات بليغة تنشتر على الأنترنت، فطبيعي أن تفقد مصداقيتها وأن لا تؤخذ مأخذ الجد. لا ينتظر المواطنون شيئا من التحقيق القضائي الذي أعلنه وزير الداخلية في مأساة الحسيمة، ليس لأن هذا التحقيق سيكون بالضرورة صوريا، بل لأنهم لا ينسون كيف تصرفت هذه الوزارة، نفسها، عشية الانتخابات.
عندما تهتز مصداقية الدولة في تدبير الانتخابات، وهي اللحظة المقدسة في الديمقراطية، تهتز الثقة في كل مبادراتها وخطابها عن التنمية والمساواة ومحاربة الريع وتكافؤ الفرص والمنافسة… خاصة وهي غارقة في سياسة تقشفية قاسية منذ خمس سنوات، ولم ير الناس بعد ما إذا كانت الأموال التي وفرها التقشف ستصرف لما يضمن حقوقهم الأساسية. صحيح أن السيادة الشعبية انتصرت في النهاية، لكنه انتصار هش لا يمكن أن يمحو كل الحماقات التي ظلت تقترف على مدى خمس سنوات للعودة إلى الماضي، حين كان رأي المواطنين عديم القيمة. بينما لا يريد هؤلاء سوى أن يسمع صوتهم، ولا يحتقر، و”الحگرة” التي انتفض ضدها الناس يوم 30 أكتوبر، ليست سوى التعبير الدارج عن الاحتقار. في الظروف الطبيعية تكون الانتخابات الطريقة العادية لتعبير المواطنين عن رأيهم، والمشاركة في تقرير مصيرهم. لذلك تغير الدستور ليضمن حق المصوتين في إيصال صوتهم إلى مركز السلطة. بعد خمس سنوات يستطيع الناس أن ينسوا أشياء كثيرة، لكنهم بالتأكيد لن ينسوا أن رئيس حكومتهم ظل يشتكي طوال الوقت عجزه عن ممارسة كل السلطة التنفيذية الموكولة إليه، ومن تلك “الدولة الثانية” التي لا يعرف من يتخذ قرارها… كما لا يستطيعون أن ينسوا مختلف مظاهر مسخ الحياة السياسية التي تحولت معها أحزاب منظمة إلى بناء عشوائي. إلى حدود اللحظة، ظل هذا التعبير عن هذا السخط تحت سقف الوطن الواحد. اليوم ثمة من يعبر عنه تحت لواء أعلام أجنبية، توصف بـ”الأمازيغية”، أو “الريفية”. لم يعد ثمة من مجال لمضيعة الوقت في المزيد من العبث.
إسماعيل بلاوعلي