أثار قرار فتح مهنة العدول أمام النساء بعض الاعتراضات المستندة على الدين. كما كان متوقعا، وكما حصل في كل الحالات المشابهة، رفض البعض المس بما يعتقدونه أحكاما مطلقة الصلاحية لكل زمن، ما دام مصدرها دينيا. لا فائدة في الوقوف عند ظاهر المسألة، فأي عاقل يمكن أن يضيع وقته في مناقشة قدرة امرأة على ممارسة مهنة “عدل”؟ مع أن المعترضين لا يتساءلون عن قدرة المرأة على توثيق عقد زواج، مثلا، بل عما إذا كان يحق لها ذلك، ما دامت شهادتها تساوي نصف شهادة رجل.
يتعلق الأمر بمشكلة المنهجية التي يفترض أن تحكم علاقة مسلمي هذا الزمن بمرجعيتهم الدينية. هل يفهم الحكم القاضي بمساواة الرجل لامرأتين في الشهادة، وفقا لخصوصيات سياقه قبل 14 قرنا؟ أم أنه يظل صالحا لكل الأوضاع، حتى وقد باتت الأرقام الرسمية الصادرة كل سنة، حول نسبة النجاح في الباكالوريا مثلا، تؤكد تفوق البنات على البنين تفوقا بينا!
يقوم المنهج الأول على منطق سلفي أو أصولي. أما الثاني فعماده المنطق المصلحي النفعي. بالنسبة للسلفيين، الأمر في غاية البساطة، كل حادث يرد إلى أصله في النصوص الدينية، أو يخضع للقواعد التي وضعها السلف لتفسير تلك النصوص، وعلى رأسها أن لا اجتهاد مع ما فيه نص. لكن هذا المنطق سرعان ما يفقد انسجامه حين يواجه الواقع، إذ الأخير متغير بالضرورة. بطبيعة الحال ليس هذا مشكلا خاصا بالإسلام أو المسلمين، بل هو مشكل أي منهجية تفكير مطلق.
واجه المسلمون هذا المشكل على مدار تاريخهم، في تفاصيل وسياقات مختلفة، بل ومنذ الأيام الأولى التي تلت توقف الوحي بوفاة الرسول. حدث ذلك، مثلا، حين طرحت على الصحابة مسألة الجدوى من الاستمرار في منح أموال الزكاة لصنف “المؤلفة قلوبهم”، أحد الأصناف الثمانية التي يحددها القرآن تحديدا صريحا قطعي الدلالة لمستحقي الزكاة. أو حين طرح عليهم السؤال حول مدى وجاهة تطبيق حد السارق في عام ضربت فيه المسلمين مجاعة غادرة. لعله من المدهش اليوم أن أؤلئك الصحابة، وقد جمعوا بين سلطتي الحكم والمعرفة الدينية، نهجوا منهجا أبعد ما يكون عن السلفية الأصولية في سعيهم للإجابة عن مثل هذه الإشكاليات. ففي كلا القضيتين استقر رأيهم على استنباط الأحكام انطلاقا من الوقائع المستجدة، وإن تعارضت مع ما تأمر به نصوص قرآنية محكمة قطعية الدلالة. هذا ما ترويه بالتفصيل مختلف المراجع التي تعرضت لهذه الفترة من تاريخ المسلمين. عمليا، نهج الصحابة في هذه الحالات منهجا نفعيا، تمحور حول سؤال جوهري: أين المصلحة العامة؟ وكيف السبيل لتحقيقها؟ إنهم بذلك، يا للعجب، كانوا أقرب إلى المنهجية العلمانية! أو لا تعني العلمانية، ببساطة، سوى التفكير المصلحي الواقعي في شؤون الدولة والمجتمع؟ وهل يعقل أن يكون فقهاء اليوم، مهما حسنت نواياهم، أكثر حرصا على الإسلام من أبي بكر وعمر!
الغريب أن مثل هذه النماذج طواها النسيان، وسرعان ما هيمنت المنهجية السلفية على مدار تاريخ المسلمين، وفق الرواية التي بلغنا عبرها هذا التاريخ في مجمله. من هنا ظاهرة الأصالة والمعاصرة، إذ لا تملك السلفية الصمود إزاء كل متغيرات الواقع، إلا إذا اتخذت ذلك اللبوس الهمجي الجنوني الذي ظهرت به في تجارب سيئة الذكر.
إسماعيل بلاوعلي