استرجعت الحكومة المغربية خلال السنة الماضية من الأموال المهربة ما فاق انتظاراتها، وشكلت ملايير الدولارات المسترجعة متنفسا ماليا مهما، قدم جوابا إيجابيا في الاقتصاد، عن خيار عدم المحاسبة، كنهج براغماتي في التدبير. وابتسم الحظ مرة أخرى بإشراقة مالية، محمولة نفطيا، بحسابات في السياسية الدولية، وهوت أسعار النفط إلى مستويات قياسية، خففت الكثير من عبء الخزينة المغربية، وأعفت البلاد من مزيد من الغرق في مستنقع الديون، والارتهان للمؤسسات المانحة. وجعلت المرور من دعم صندوق المقاصة إلى تبني نظام المقايسة، المرتبط بأسعار السوق والعملة الصعبة، إلى الإلغاء التدرجي للدعم الذي تقدمه الدولة لمختلف المواد يمر بنوع من السلاسة، دون أن تسجل ردود فعل قوية على الزيادات الناتجة عن رفع الدعم. ثم حاولت الحكومة أن تبتكر أشكالا من التعويض لفائدة المتضررين، من المستهلكين ذوي الدخل المحدود، الذين أناخت الزيادات الأخيرة في أسعار بعض المواد الأساسية بكلكلها عليهم. ولم تحسم الصيغة بعد، فيما يتعلق مثلا برفع الدعم عن غاز البوطان الذي تستفيد منه الفنادق والمطاعم وقطاع الفلاحة، وفي نفس الوقت حماية الفئات المستهلكة الأخرى من هذا الإجراء. لكن يبدو أن الصيغ والسيناريوهات المطروحة متجهة رأسا إلى التفكير فقط في آليات لتقديم الدعم المباشر للأسر الفقيرة. فماذا عن الفئات الاجتماعية، المصنفة نظريا في خانة الطبقة المتوسطة، وهي على مستويات؟
احتاجت خزينة المغرب إلى المال مع بداية القرن الماضي، وعجز المخزن عن إيجاده في الداخل، عبر إصلاح ضريبي حقيقي، أو عبر مشاريع استثمارية تحقق الانتقال من العتاقة إلى العصرنة. وجاءت الأموال المشروطة من البنوك الفرنسية، ولم توظف في الإطار الصحيح، فاجتاحت القوى الأجنبية البلاد.
بدت الحاجة ملحة للمال مع بداية الاستقلال، فجرى تدشين هذه الفترة أيضا بطلب القروض ومن نفس المانحين، وكأن فترة الحماية مجرد قوس جرى إغلاقه. وعلى مستوى توظيف هذه الأموال تم تبني اختيارات اقتصادية كسرت أفق انتظار المغاربة، وصلت ذروتها مع حرمانهم من إحدى وسائل الارتقاء الاجتماعي، عبر بوابة التعليم، الذي حاولت الدولة تقنينه مطلع سنة 1965، مما حرم شرائح واسعة من المتعلمين من استكمال المسار التعليمي العالي، وبالتالي الحيلولة دون إخراج مجموعة من الأسر المعدمة من الفقر، وتوسيع قاعدة الطبقة المتوسطة.
قد لا نحتاج إلى استحضار تجارب رائدة (اليابان مثلا) أو التذكير ببديهيات عند الاقتصاديين في موضوع الطبقة المتوسطة، فهي في مختلف المجتمعات تشكل الضابط الاجتماعي والمحرك الاقتصادي، بل إن توسع قاعدتها أو تقلصها يعتبر معيارا لقياس درجة توازن المجتمع وانسجامه. فالدخل الذي تتوفر عليه، بقطع النظر عن مستواه، شكل تاريخيا محركا للاستهلاك، مما يؤدي إلى تنمية الطلب العام، الذي يحفز بدوره على الإنتاج وبالتالي تزايد فرص الاستثمار، وما ينتج عنه من تنمية وخلق فرص للشغل. ناهيك عن كونها الفئة الأكثر إسهاما في موارد الدولة عبر آلية التضريب، فهي فئة دافعة للضرائب بالقوة وبالفعل، إذ يتم اقتطاعها مباشرة من الأجور. مما يؤهلها لأن تلعب دور قطب الرحى في الدورة الإنتاجية، وحجر الزاوية في الاقتصاد ووقوده. إلى جانب هذا المعطى المادي تحضر أيضا معطيات لا مادية ضمن أدوار الطبقة المتوسطة سواء على مستوى منظومة القيم أو المنتوج الثقافي أو العملين النقابي والسياسي، فهي الفئة الرائدة والموجهة في هذه الباب إن قدر لها فعلا أن تكون قاطرة حقيقية في البناء المجتمعي.
فماذا أنفقنا في سبيل تنمية وتوسيع قاعدة هذا «الدينامو» الاقتصادي وممتص الصدمات (Pare-chocs) الاجتماعي والسياسي؟
ألم نخطئ موعدنا مع التنمية حين تمت بشكل إرادي أو لا إرادي عملية تقليم أظافر الطبقة المتوسطة وتعريضها للتآكل التدريجي؟
جنت الدولة مع بداية الألفية الثالثة موارد مالية مهمة من عائدات الخوصصة، تم رصدها بالأساس للتسيير ومعالجة بعض مظاهر الخلل، لكن بمنطق ظرفي محكوم بإكراهات المرحلة. وتعطل أو تأجل ورش الإصلاح الحقيقي، المسنود بفئة اجتماعية محركة لعجلة النماء. الآن وقد توفرت موارد مالية جديدة، وتم تبني قرارات جريئة لمعالجة اختلالات مالية متراكمة. يطرح سؤال مآل هذه الأموال، هل توظف بمنطق جزئي وظرفي محكوم بحسابات السياسة ؟ أم تستثمر برؤية شمولية إستراتيجية محكومة برهانات التنمية والإقلاع الاقتصادي والتوازن الاجتماعي؟
بين منطق العطاء المكرس للتواكل، الوجه الآخر لعملة الريع، ومنطق الاستثمار المنتج، الذي يخلق الثروة ويوفر فرص الشغل تحدد الاختيارات في النموذج المنشود. فما تشهده الحياة السياسية والنقابية والثقافية والجمعوية ببلادنا ما هو إلا مرآة عاكسة في السلوك اللامادي لاختيارات مادية. فنهج التهافت للارتقاء الاجتماعي بأي وسيلة، يجد تفسيره في التـآكل المفرط للطبقة المتوسطة وتراجع أدوارها ووظائفها وقيمها. لذلك فالإصلاح الحقيقي الذي ينشد خلق مواطن الغد المنتج والفاعل وغير المتواكل يمر عبر توسيع قاعدة هذه الفئة، وتخليق الحياة العامة يمكن الوصول إليه عبر هذا الورش الذي يتطلب الإرادة والنفس الطويل.