هكذا، تكلم في أواسط سبعينات القرن الماضي المرحوم مولاي عبد لله إبراهيم، وقضية الصحراء لم تكن آنذاك إلا في بداية تعقيداتها. يؤسفنا اليوم، بعد مرور أكثر من أربعة عقود، الإقرار بأن خطر التدمير لا زال قائما، وبأن الكراهية تزرع في الأجيال الصاعدة، وأن الأمجاد المشتركة لتاريخ شعوب المنطقة المغاربية توارت خلف الحسابات الصغيرة.
لقد عشنا، جميعا، حلم بناء “المغرب الكبير” وامتزجت دماء المقاومين خلال الحروب التحريرية ضد الاحتلال الفرنسي. وقتئذ كانت شعوبنا تهب جماعيا، وبعنفوان الشباب الطامح للحرية والتقدم والوحدة، للتضامن مع من تعرض للتعسف والتقتيل. هكذا، سجل التاريخ الانتفاض والتضامن مع الشعب الجزائري أيام مجزرة سطيف، ومع الشعب التونسي عند اغتيال القائد النقابي فرحات حشاد، ومع الشعب المغربي لما نفي السلطان سيدي محمد بن يوسف. وبالرغم من استقلال تونس والمغرب قبل الجزائر، فقد أقر المغاربيون الأحرار “مركزية المسألة الجزائرية” في اهتمامات الدولتين المستقلتين. وكان مؤتمر طنجة لسنة 1958 التزاما علنيا بذلك.
ستتطور الأحداث، منذ ذلك، بشكل غير مشجع. حتى استقلال الجزائر، بعد تضحيات جسام ومساندات تضامنية شعبية رائعة، لم يخلق شروط إعادة الروح للمد الوحدوي. بل بالعكس تسارعت السيرورة القطرية الانعزالية. والفضاء المغاربي الذي كان خلال الحقبة الاستعمارية فضاء مفتوحا سيغلق بالتدريج. هكذا أصبح المغاربيون، منذ أواسط سبعينات القرن الماضي، مضطرين للاجتماع في باريس أو روما، إن هم أرادوا ربط صلة الرحم والحفاظ على شعرة معاوية في ما بينهم. يؤلمنا، اليوم، أن نسجل أن شعوبنا لا زالت تتخبط في إقرار ديمقراطية مؤسسة على أن “الشعب مصدر السلط”، وأن السياسات العمومية داخل بلدان المغرب الكبير لم تحقق التنمية المنشودة القادرة على إنتاج الثروة وضمان حسن توزيعها، وتوفير الأمان والاطمئنان للأجيال القادمة. بالعكس، ما يلاحظ هو استقرار الخوف من المستقبل، واستبطان الشباب، وهو رأس مال الشعوب، ليأس بنيوي يجعله لا يتطلع إلا للهجرة وما يصاحبها من سراب.
وفي واقعنا الرديء هذا، تترعرع النزعات الهوياتية على قاعدة دينية أو عرقية أو جهوية. هل مستقبلنا لا يبشر إلا بالنزاعات الضيقة والهويات الصغيرة، والتطرف الديني أو القبلي؟ هذا أفق محتمل، ولكنه ليس بالحتمي ولا بالمقدر.
نعرف أن إرادة الشعوب قادرة على تغيير مسار الأحداث، وأن التاريخ الكبير، ذلك الذي يسجل وقائعه في تراث الإنسانية بمداد من ذهب، غالبا ما يفاجئ الجميع كأنه معجزة نزلت من السماء. إلا أنه في الواقع العيني نتاج سيرورة فعل نخب واعية بمسؤولياتها ومستميتة في سباحتها ضد التيارات المفسدة الجارفة للأحلام المؤسسة والمحبطة للعزائم. فبقدر ما نضع الأصبع على كل ما يقرف في الواقع المغاربي حاليا، بقدر ما نؤكد أن هذه النخب الواعية موجودة في البلدان المغاربية الخمسة، بالرغم من حالة الحرب الأهلية في ليبيا، والتنافر المغربي الجزائري، والتيه الموريطاني، والمخاض التونسي.
نتوجه لهذه النخب، باسم التاريخ المشترك والمستقبل الواعد، لتنسق مجهوداتها ولتكثف فعلها حتى يصبح فضاؤنا المغاربي فضاء موحدا، ليس فقط على المستوى الجغرافي، بل الثقافي والاقتصادي.
يؤكد الباحثون، من خلال دراسات علمية ميدانية، أن كلفة اللامغارب كبيرة، وأن الناتج الوطني الخام لكل بلد مغاربي يفقد كل سنة عدة نقط في حساب تنميته، مع ما يصاحب ذلك من مناصب شغل ضائعة ومنشئات ومصالح غير منجزة. كما تظهر الدراسات المستقبلية أنه في عصر عولمة الاقتصاد والثورة المعلوماتية لا مكان للكيانات الصغيرة والأسواق المغلقة والجامعات ومراكز البحث القزمية. لذلك فالمستقبل ليس فقط لفضاء موحد كالمغرب الكبير، ولا حتى لفضاء متوسطي يجمع بين أوربا والضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط. بل إن الضرورة الاستراتيجية، في أفق توسع الفضاء الأسيوي الذي يتهيكل أمامنا بقيادة الصين الشعبية، والفضاء الأمريكي-الياباني الذي يجدد كفاءاته للحفاظ على سبقه التكنولوجي والعسكري، تستدعي تأسيس وتطوير فضاء مشترك بين أوربا والمغرب الكبير وإفريقيا ما وراء الصحراء. هذا أفق محتمل، قد يتحقق بنا أو بدوننا. إن إرهاصات مغرب كبير حاضر في عصره وفاعل فيه من موقع الشريك المحترم موجودة في واقع نخبنا اليومي. نرصدها داخل المنتديات الاجتماعية للشباب، داخل الفضاءات العلمية والجامعية، خلال ملتقيات الفعاليات النسائية والحقوقية، وخصوصا عندما تتوفر الفرصة لنساء ورجال الأعمال المغاربيين للقاء والتناظر. ففرص إنتاج الثروة وتطوير التنمية تتراقص أمامهم، إلا أن قيود الإحباط تنتصب أمامهم. سجلنا في هذا المنبر من مجلة “زمان”، عدة مرات، أن التوتر القائم بين المغرب والجزائر حول ملف الصحراء يمكن امتصاصه بالحوار الإيجابي. وأن العقل والمصلحة الاستراتيجية المشتركة يستدعيان أن تكون الصحراء “قنطرة وصل نحو المستقبل، وليس منطقة فصل قد تعصف بالشعوب المغاربية وتدخلها منطقة الاقتتال الآثم”. نتمنى للنخب المغاربية الواعية أن لا تستسلم لإرادات تجار الحرب، وأن تنتفض بشكل حضاري لبناء مستقبل مشترك يليق بشعوبنا، ويعيد البسمة والأمل لأجيال الغد.
المصطفى بوعزيز
المستشار العام