يجمع كل من أرخ لما جرى بالمغرب من حوادث ونوازل على أن تاريخ البلاد هو تاريخ أوبئة ومجاعات، وعلى أن ما عرفته من ذلك كان سببا في حدوث تغييرات بنيوية بالمجتمع، ديموغرافيا وجغرافيا واقتصاديا واجتماعيا، وأن التركيبة التي نعرفها، اليوم، كانت هذه الأوبئة والمجاعات عاملا مهما في صياغتها.
كما يجمعون، كذلك على أن وباء عام 1799، الذي عرف بالطاعون الكبير، كان أشد فتكا بالمغاربة من كل ما سبقه وما تلاه من أوبئة. يحكي عبد السلام بن سليمان الفشتالي، في كتابه “الابتسام”، أن عدد الموتى بفاس بلغ وحدها 2500 شخص في اليوم الواحد، وفقدت في النهاية 65 ألفا من سكانها، فيما فقدت مراكش 50 ألف، وفقدت غيرها من المدن آلاف أخرى. كما يتحدث أيضا كيف أن الجثث تكدست بالطرق حتى كانت تأكلها الكلاب، وكيف كان الناس يتهافتون على شراء الأكفان استعدادا للموت الذي لا مفر منه…
ما يعنينا، الآن، من حوادث هذا الوباء العظيم وما كان بعده من نتائج وخيمة على المغرب اجتماعيا، هو ما أقدم عليه سلطان المغرب حينذاك. فقد جهز المولى سليمان -والذي كان فقيها ملقبا بسلطان الفقهاء وفقيه السلاطين- جيشا من فاس نحو آسفي ليجعلها تحت حكمه ويأخذ بيعة عبد الرحمان بن ناصر بها، وكان أغلب الجيش مصابا بالوباء، حتى قال محمد الضعيف الرباطي: «كان السلطان قد نهض بجندين، جند من العسكر وجند من الوباء». وقد كان مرور الجيش بعدد من المدن، كالرباط وغيرها، سببا في إصابة أهلها بالطاعون وانتشاره في أنحائها…
وأبلغ من ذلك ما نقله محمد المنصور، في كتابه “المغرب قبل الاستعمار”، عن دعوة القناصل الأجانب المولى سليمان لاتخاذ إجراءات الحجر الصحي، لكنه رفض ذلك مطلقا باعتبار هذه الإجراءات مخالفة لـ”شرع لله”، يقصد طبعا أن عقيدة القضاء والقدر بمنظوره، وهو الفقيه، تتعارض مع اتخاذ هذه الاحتياطات، وأنه لا بد من التسليم للقضاء، وكان رأيه هذا من أعظم أسباب حصد ذلك الوباء للأخضر واليابس.
ينقل البزاز، في كتابه “تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب”، عن المؤرخ الزياني كيف يعتبر خضوعه لـ”الكارنطينة”، وهي الحجر الصحي عام 1794، بدعة وحراما. هذا قوله: «بعد يومين، جاءنا الإذن بالنزول إلى الكرنتينة الشنعاء الممنوعة عرفا وشرعا… وأنزلونا بقلعة تيكي وسط البحر بقصد بدعة الكرنتينة التي جعلوها دفعا للوباء، قبح لله مبتدعها».
يورد الناصري صاحب “الاستقصا”، أيضا، وصية السلطان المنصور لابنه بألا يقرأ كاتبه عليه الرسائل إلا بعد غمسها في الخل. علق على ذلك قائلا: «وهذا عمل من أعمال الفرنج ومن يسلك سبيلهم في تحفظهم من الوباء المسمى عندهم بالكرنتينة»، وحكم على إجراءات الحجر بالحرام فقال: «فالحاصل أن الكرنتينة اشتملت على مفاسد كل منها محقق، فتعين القول بحرمتها، وجلب النصوص الشاهدة لذلك من الشريعة لا تعوز البصير».
هو نفسه العقل الفقهي الذي كان غالبا في جل أنحاء العالم الإسلامي، مستندا إلى عقيدة جبرية أرادت لها السياسة أن تكون طاغية، تحقيقا لأغراض الساسة، مدعومة بنصوص مروية عن أنه لا فائدة من اتقائها، مع إهمال لنصوص أخرى حثت على الفرار من المجذوم، مع ثقافة متجذرة في التكاسل وقلة الأخذ بالأسباب والتواكل بحجة الأقدار المكتوبة. وحين تحدث لسان الدين ابن الخطيب بالأندلس عن العدوى وثبوتها بالاستقراء والحس والأخبار المتواترة، في سبق حتى عن العالم الأوربي، اعترض الفقهاء قوله ورأوا فيه مخالفة للدين والشريعة.
كثير من الفقهاء اعتبروا أن الطاعون ليس إلا وخزا من الجن، ومجتمعاتنا للأسف الشديد لم يؤطرها أمثال ابن الخطيب، وإنما أطرتها السلطة المتحالفة مع الفقه التقليدي، فكانت النتيجة ما حل ببلادنا من خراب واحتلال…
هذه الثقافة الموروثة هي ما تجعل كثيرا من الناس اليوم مستهينين بعواقب البلاء وأثره في تدمير المجتمعات، هي ما تجعل اليوم شرذمة من مدعي التدين يخالفون تعاليم الحجر الصحي للخروج في مظاهرات مكبرين مهللين، وكأن تكبيرهم وتهليلهم سيمنع نشر الوباء وذيوعه، هي ما تجعل الاستدلال بالمكتوب والقدر ما زال ذهنية عامة في المجتمع وأسلوبا للتملص من أخذ الاحتياط عند كثير من الناس، رغم كل ما بلغه العلم من تقدم وتطور…
سيتحدث الناس، يوما، وسيقفون في مقررات التاريخ عن وباء “كورونا”، وحينذاك إما أن نخلد ذكرنا بالحديث عن مواجهتنا للوباء بكل تحضر ورقي، وعن تغلبنا عليه جميعا دولة وشعبا بكل ما تقتضيه الحرب ضد الوباء من احتياطات وإجراءات، وإما -لا قدر لله- أن يقرأ أحفادنا كيف تمكن منا الوباء بسبب أفكار فاسدة وأفكار متخلفة، وإن كانت كل المؤشرات اليوم تبعث على الارتياح، وترجح الاحتمال الأول، مما قد يعني موتا أيضا لكل هذه الأفكار الفاسدة.
محمد عبد الوهاب رفيقي
كاتب رأي