لا أتحدث هنا عن الصحراء المغربية التي تسمى في أدبيات الأمم المتحدة بالصحراء الغربية. أتحدث عن الصحراء الكبرى التي تمتد من حدود المحيط الأطلسي إلى حدود السودان. لقد ورثت الجزائر الحالية أراضٍ فرنسية، وورثت معها الطموح الاستعماري الذي كان يحمله المشروع الفرنسي. لقد سبق لي أن أشرت في نص سابق بالفرنسية، (انظر زمان النسخة الفرنسية عدد 143 شتنبر 2022) تحت عنوان “الفرنسي ذلك النصراني الأبدي“، إلى الطريقة التي توسعت بها فرنسا بقضم أجزاء واسعة من المغرب، وكيف حاولت منح الجزائر الفرنسية أجزاء واسعة من تونس وليبيا ودول أفريقية أخرى إضافة إلى المغرب. تحملت الجزائر عبء هذا الإرث، وجعلت من الدفاع عنه عقيدة إيديولوجية وعسكرية، ولكنها لم تستوعب أنها ليست قوة كبيرة باستطاعتها الدفاع عن مشروع كهذا، وفي الوقت نفسه الحفاظ على استقلال قرارها السياسي والاقتصادي والثقافي. وضعية الجزائر اليوم على الأقل على المستوى الجغرافي هي: حدود مع المغرب بطول 1900 كيلومتر، حدود مع موريتانيا بطول 463 كيلومتر، حدود مع مالي بطول 1329 كيلومتر، حدود مع النيجر بطول 1000 كيلومتر، حدود مع ليبيا بطول 1000 كيلومتر وبالطول نفسه حدود الجزائر مع تونس. آلاف الكيلومترات هذه وباستثناء الدول المستقرة مثل المغرب وموريتانيا وتونس، تسبب قلقا كبيرا للدولة الجزائرية. وحتى الحدود المغربية لا تمثل أمانا للجزائر، حيث إنها اختارت أن تضع ثعبانا في فراشها يتمثل في جماعات مسلحة (البوليساريو) تحتجز جماعات من البشر وتحكمهم بالتمني وبالتسويف. وليس باستطاعة التنظيم بتندوف أن يضبط سكان المخيمات الذين تعلموا استعمال السلاح. لذلك، نجدهم يشتغلون مع المهربين وتجار المخدرات على الحدود مع الجارة موريتانيا. كما أن عددا كبيرا منهم يتحول إلى الخدمة ضمن الجماعات المسلحة التي تنشط في الصحراء الكبرى وتسبب عدم الاستقرار في دول الساحل.
في كل هذا، تنسى الجزائر مسألة أساسية قد يجهلها الكثير وهو ارتباط منطقة الساحل والصحراء بالمغرب ليس فقط على المستوى الروحي (أي الانتماء إلى بعض الزوايا بأرض المغرب)، ولكن على مستوى المخيال الجمعي إذ لا يمكن أن يتصور ساكن تلك المناطق جهة الشمال في مطلقها دون التفكير في فاس ومراكش كمدن لها ارتباط سياسي وروحي وعقدي مع كل البقاع السودانية القديمة مهما بعدت عن هذه المراكز.
لكن الجزائر وعندما تسلمت تركة الاستعمار من فرنسا تسلمتها بكل مشاكلها. ففرنسا عندما استعمرت الأرض المسماة اليوم الجزائر، وحتى تفتح ممرا أرضيا نحو إفريقيا حيث كانت تستعمر جل بلدان الغرب الإفريقي، استحوذت على أراضٍ شاسعة كانت تابعة للمغرب على المستويين العسكري أو السياسي أو على المستوى الروحي فقط. سمح لها ذلك بتحجيم دور المغرب بقطع طريق التواصل بينه وبين أصوله الجنوبية. كما أعادت كتابة التاريخ ليظهر المغرب كقوة استعمارية نهبت خيرات الأفارقة، واستعبدت العباد وباعتهم في سوق النخاسة. كانت فرنسا تعتقد أنها سوف تبقى في الجزائر أبد الآبدين، لكنها ما فتئت أن اكتشفت أن الصحراء وجع في الرأس، ولا تستطيع التحكم فيها. وكانت قد بدأت التفكير في التخلص منها أو من بعض أجزائها، لكن اكتشاف البترول جعلها تعدل من مشروعها. لم تكن الفترة الزمنية التي تفصل تاريخ اكتشاف البترول والغاز عن اندلاع الثورة الجزائرية كبيرة. تلاحقت الأحداث بعد استقلال المغرب وتونس وذلك ما دفع فرنسا إلى التفكير في حل آخر: تسليم الأمور إلى الثوار الجزائريين ووضعهم في الواجهتين السياسية والإيديولوجية وإحكام القبضة على الثروة الجزائرية من خلال ضباط اشتغلوا معها على أن يحافظوا على النهج نفسه والفلسفة الاستعمارية الفرنسية. لذا، كان النظام الجزائري اشتراكيا على مستوى الخطاب، واستعماريا استبداديا على مستوى الواقع.
وهكذا، أصبح مصير الجزائر بإفريقيا مرتبطا أيما ارتباط بمصير فرنسا. فكلما أحكمت فرنسا قبضتها على إفريقيا كانت الجزائر آمنة. وكلما اهتزت هيبة فرنسا في هذا الجزء من العالم، أصبحت الجزائر في خطر. اليوم وأكثر من أي وقت مضى تظهر الجزائر ضحية الإرث الاستعماري الفرنسي. ليس لأن فرنسا هي من خلقت الجزائر ودعمتها ولا زالت تدعمها، ولكن بسبب الطموح المبالغ فيه الذي كان لدى دهاقنة الاستعمار الفرنسي اتجاه إفريقيا ومحاولة السيطرة على الصحراء.
آلاف الكيلومترات من حدودها اليوم، يبدو أنها خرجت عن السيطرة الفرنسية؛ فليبيا تعيش حالة من الفوضى والمتناحرون فيها لا يحملون في قلوبهم حبا كبيرا لعسكر الجزائر، كذلك الأمر في النيجر ومالي. وبما أن الحكمة العسكرية الجزائرية ارتأت خلق عداوات في جميع الاتجاهات حتى مع إسبانيا، فإن الجزائر تبدو اليوم محاصرة أكثر من أي وقت مضى؛ وما كانت تظن أنه سوف يكون وابلا على المغرب وتونس سوف تتجرع مرارته لوحدها.
بحثت، بإيعاز من فرنسا، عن الحل في الصين وفي روسيا، لكن يبدو أنها لم تجده، وهي تبحث عنه الآن في أمريكا فهل تنجح؟
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير