أخرج اليوم من أربعينياتي وأسافر بعيدا في الخيال إلى طفولتي في اتجاه شاطئ عين السبع. وفي كل صيف، أحرص على قضاء عطلتي هناك، في الماضي، كأنه اليوم، وأتذكر أننا كنا دائما أربعة صغار، نخطط في المساء لمغامرات الصباح، ونشتري صنارات وخيطا وثقالات رصاص، ونتفق أن يأتي كل واحد منا بدرهمين.
لم نكن نحمل معنا مناشف ولا مظلات ولا زيوتا واقية من الشمس، كما يفعل الأطفال الأسوياء، وكانت متعتنا هي أن نتمرمد في الرمل، ونصطاد السمك في البرك ونعذب السلطعونات ونبتر أرجلها التي على شكل مقص، كأنها كافرة، وكأننا دواعش ذلك الزمن.
كنا نعتبر البحر لنا، وفي ملكيتنا، ونرفض أن يسبح فيه أولاد الحي المحمدي، الذين كانوا يأتون في العربات، أو مشيا على الأقدام، قبل ظهور الحافلة، فيبصبصون على بنات عين السبع، ويتحرشون بهن، وكم من مرة وقعت معارك طاحنة، وكم من كمين وضعناه لهم في الطريق، لكنهم كانوا ينتقمون منا، ويردون لنا الصاع صاعين حينما نسافر إلى حيهم، ونتجاوز الحدود، من أجل شراء الحمام والأرانب في سوقهم الشهير، عابرين طريق الشابو الخطرة.
ولم يكن كل شيء جميلا ومنعشا، وفي هذه العطلة البعيدة التي أذهب إليها، أرى الآن تلك الجثة البيضاء الخالية عيناها من الرموش التي لفظها البحر ماثلة أمامي، وأتذكر الهلع الذي أصابنا، حين رأينا، ولأول مرة، رجلا ميتا، ومن شدة خوفنا منه هربنا، وعدنا إلى منازلنا، ولم نحك لأحد القصة. ليس هذا فقط، ففي إحدى المرات، انضم إلينا أصدقاء آخرون، فاتجهنا جماعة إلى شاطئ «الراحة»، وأثناء عودتنا اكتشفنا أننا ناقص واحد، قبل أن نستوعب أنه غرق، وكلما حل الصيف تحضرني صورته، وصورة أمه وهي تبكي. ومع مرور الوقت، تصالحنا مع البحر، وصرنا أكثر حذرا منه، لكنه لم يتوقف للأسف عن عادته السيئة، وكلما بالغنا في الاطمئنان إليه، لم يكن يتردد لحظة في بلع واحد منا، ويا ما نجونا منه بأعجوبة.
وليس كل ما يلفظه البحر بشرا، فقد حدث يوما أنه كان كريما معنا، ومنحنا سمكة قرش كبيرة جدا، فحملناها على أكتافنا، ولم نسأل ما إذا كانت نتنة أم طرية، وأضرمنا النار في الحطب، وشويناها، وكانت وليمة تاريخية، حضرها الكبار والصغار، ومثلت حدثا فارقا يؤرخ لتلك المرحلة.
لا جوع يشبه جوع البحر، ولا عطش يشبه عطشه، وإن نسيت فلن أنسى ذلك اليوم الذي ادعى فيه صديق لنا أن درهميه ضاعا منه، وظل يفتش جيوبه، ويقلب الرمل ويحفر، بينما نحن لا نصدقه، ونستشعر خيانته لنا، فاشترينا خبزا وذهناه بالزبدة، بينما ظل هو يتلمظ، ويستجدينا، ويلحس الملح العالق في شفتيه بلسانه، كتائه في صحراء قاحلة، وإذا كان هناك من تعريف للذة، فهي حين كانت تساعدنا ظروفنا المادية على شراء علبتي سردين حارتين، وتوزيعهما بالتساوي على ثلاث أو أربع خبزات، مع قنينة ليمونادة، وليس من عاش التجربة كمن يسمع بها.
أما الصنارة، فقد كنا نصطاد بها سمكا صغيرا اسمه «كاركارا»، يعيش في البرك بين الصخور، فنحمله معنا إلى بيوتنا، وكنت أتسلل إلى المطبخ، وأقليه في الزيت، متجنبا أن يكتشف أحد أمري، ويوبخني، لأني آكل سمكا لا يأكله الناس، ولا يباع في أي مكان.
كما كنت أملأ كيسا بالسلطعون وبحلزون البحر، على أمل تربية هذه الكائنات في المنزل، لكنها كانت تزحف وتتجول ليوم أو يومين بين الغرف، وبعد ذلك تموت للأسف الشديد.
أما الآن، فنحن نستعد للعطلة منذ أكثر من أسبوع، ونجمع الحقائب، ونشتري المايوهات للأولاد والزيوت والقبعات، ونبحث عن شقة في الشمال بألف درهم لليلة على الأقل، ولحد الساعة لم نذهب إلى الشاطئ، ولم نسافر، ولم نسبح، وكم تمنيت لو كان بإمكاني أخذ أسرتي معي إلى الماضي، وكم تمنيت لو كان بمقدوري أن يسافروا معي إلى شاطئ «السعادة» في عين السبع.
حميد زيد