مضت سنة كاملة على الانتخابات التشريعية دون أن تنفك بعد العقدة التي أفرزتها نتائجها. “البلوكاج” كما سمي إعلاميا، ما يزال مستمرا في الواقع، وإن تشكلت الحكومة. يذهب المعلقون، عموما، في تشخيصهم للأزمة، مذهبين مختلفين. فريق منهم يراها في الأحزاب السياسية، وآخر يراها في المنهجية الديمقراطية. نفس الثنائية السائدة منذ سنوات، ليظل مسار الانتقال الديمقراطي يراوح مكانه. من يحكم على الموقف، من وجهة نظر الفريق الأول، يرى المسألة غاية في البساطة. المشاكل كلها تأتي من السياسيين، واضعا إياهم بالمناسبة، في نفس السلة. يكفي إذن تغيير الزعماء الفاشلين والإتيان بآخرين أجدر بتنفيذ الأهداف المسطرة لهم. كأن الأحزاب السياسية مقاولات يسيرها مدراء في منافسة تجارية، فيحق للمساهمين فيها أن يغيروا المدراء متى فشلوا في بلوغ الأهداف المسطرة بعيدا عن أروقة النقاش السياسي. ليس في التوصيف أي مبالغة، فقد تحدث أحدهم هكذا صراحة، في حوار صحافي، عن “إغلاق” الأحزاب التي تفشل في تحقيق الأهداف “المرسومة” لها! بطبيعة الحال، يفقد الناخبون، وأعضاء الأحزاب، أية قيمة في هذا التصور التجاري للحياة السياسية. إنهم مجرد “زبناء” بالمعنى السوقي للكلمة، وليس بمعناها الانتخابي السياسي. لا قيمة لرأيهم في اختيار الأمين العام للحزب، وبرنامجه وتوجهه. كما لا قيمة لرأي الناخبين، عموما، في اختيار من ينوب عنهم ومن يشكل الحكومة، ومن يقودها. باختصار، تستمد الشرعية السياسية، وفق هذا المنظور من فوق. تتجدد بتجدد هذا التفويض الفوقي، و تزول بزواله. المفارقة أن هذا التصور يراكم الفشل تلو الآخر. وإلا لم الحديث عن مسلسل ديمقراطي، فانتقال ديمقراطي، منذ سبعينات القرن الماضي؟ بل لم الحاجة، اليوم، لتغيير زعماء الأحزاب الذين جيء بهم قبل خمس سنوات، لمنع الحزب الأكثر شعبية، من تصدر الانتخابات؟ أليس إبعادهم اليوم أوضح دليل على عقم المنظور السلطوي للسياسة. في المقابل، يجاهد الفريق الثاني في التذكير بالبديهيات. الحرية شرط الديمقراطية، بدء بحرية الناس في تشكيل الأحزاب والانتماء إليها واختيار قادتها، وبرامجها، وصولا إلى حريتهم في اختيار ممثليهم في البرلمان، والحكومة، ومن يقودها. هكذا يذكر البيان الختامي للمؤتمر العام السابع عشر لحزب الاستقلال، بهذه البداهة. ليخلص إلى أن التجسيد الحقيقي للأزمة الحالية، يتمثل في كون الحكومة “مشلولة” بسبب الطريقة التي تشكلت بها، مدينا “التزوير” الذي طال الانتخابات. لكن عقدة السياسة في بلادنا، منذ الاستقلال، تتمحور حول إنكار هذه البداهة، أولا، ثم السعي لتمييعها، في مرحلة ثانية. على مدى عقود ظل المشهد ديمقراطيا في ظاهره سلطويا في عمقه، بين مد وجزر تبعا للظروف المحلية والخارجية، وخاصة منها توسع مجال المشاركة وصعوبة التحكم في الانتخابات ونتائجها. هكذا، بدأ التركيز على التحكم في “الناخبين الكبار” عند تشكيل المجالس المحلية، وفي ضبط الأوضاع الداخلية للأحزاب وتحالفاتها ومواقفها… منذ 7 أكتوبر الماضي باتت هذه الوصفة عقيمة، بدليل السعي الحثيث لتغيير زعماء الأحزاب رغم تشكيل الحكومة، وتحميلهم مسؤولية أزمة الريف. مجرد محاولة لترميم لتقويم نفس الآلة التي أفرزت كل هذه المشاكل. عود على بدء.
إسماعيل بلاوعلي