كان ذاك لسان حال الكثيرين وهم يرون صور التعنيف تنهال يوم العيد على أبناء الحسيمة، أقحوانة الشمال، وبلاد الخزامة، ومعقل المَزَمَّة وعرين الأشاوس، صانها الباري من كل مكروه. كان الألم يعتصرهم ولا يجدون سوى هذا الشطر من بيت المتنبي، ولم يجدوا سواه، يخفف عنهم لوعة ألم عميق وهم يرون الحزن يَرين يوم العيد على أهلنا في الريف… وقد يشفع بعض المتأدبين ببيت آخر للمتنبي يعبر عن حالنا وما يطبعها من تقلب القيم:
أذم إلى هذا الزمان أهيله // فأعلمهم فدْمٌ وأحزمهم وغد
إلى آخر الأبيات مما لا أجرؤ على تلاوته للتعريض الصريح مما نعانيه، ويعفيني القراء بالرجوع إليه. تلك مأساتنا التي عبر عنها المتنبي فأحسن تصويرها، هي أن الكلمات عندنا لا تفي بالمعنى. فعالمنا جاهل أو بلسان المتنبي فَدْم، ومن هو مؤتمن على الشأن العام وغد (أو دين الكلب) يفقه في العويل والكذب والافتراء وعدم الاتساق، ينصب “المبتدأ”، ويجُر “الخبر”، ويرفع “الحال” وأصحابه، وهو كالهر يحكى انتفاخا صولة الأسد. ومؤرخنا صنو خرافة، والناطق منطوق به، وبائع الوهم قابض على “شمس” أو يخفيها بالغربال، والمنافح عن الضاد أوتي بسْطة في الركاكة، وجهل بقواعد اللغة، ولحن في القول، وفجاجة في التعبير، ويشفع له انبهار الأغرار، وهلم جرا من نكد هذا الزمان على الأحرار.
فأين تاريخنا هذا الذي نتبجح به؟ أليس لنا مما تواتر من عاداتنا أماكن حُرُم، يُحرّم فيها المساس بمن استجار بها، وأيام حُرم هي العواشر، وما أدراك ما العواشر، يتوادد فيها الناس ويتراحمون ولا يتنابزون بالألقاب فضلا عن أن يتراشقوا باللفظ البذيء والعصي والهراوات؟ وأين قيمنا الداعية للصفح الجميل والعفو عند المقدرة؟ وهل شهر رمضان إلا مغفرة و رحمة؟ وما ذا يفيد الامتناع عن الأكل والشرب إن لم يكن مراجعة، بل محاسبة للنفس؟
كيف يمكن الحديث عن المفهوم الجديد للسلطة، وقد عفى عليه منطق “اطحن مو”؟ وكيف نزعم الحديث عن تقريب الإدارة من المواطنين حين تتلفع الإدارة بالمساطر، أو ما يدعوه “جهابذة” التقنقراط عندنا بـ process ولو أدى ذلك إلى تعطيل المشاريع، بل ولو أدى إلي سقوط مسجد تم توقيف الإصلاحات الجارية في محيطه، وأدى الأمر إلى كارثة بسقوطه على رؤوس المصلين، وأودى بمقتل أكثر من أربعين شخصا، واكتفى وزير الأوقاف بالقول، في برنامج تلفزيوني إنه قضاء وقدر. وهل كان قضاء وقدرا أن تتوقف الإصلاحات بمجرد تغيير القيّم على الإدارة؟
كيف يمكن الحديث عن الإدارة في خدمة المواطنين، والإدارة أو بعض من القيّمين عليها تحولوا، بتعبير مسؤول كبير، إلى ملوك طوائف؟
كيف يمكن الحديث عن المصالحة في الريف وصور المداهمات ليلا تملأ الفضاء الأزرق، فضلا عن التوقيفات التعسفية، وتلفيق التهم السوريالية لبعض الموقوفين، علاوة على التعنيف في العيد؟
وكيف لمن أعياهم التحصيل أن يجدوا المخرج بتبني الدارجة، ويا ليتهم يتقنون الفرنسية سوى ما يرطنون من لغة التخاطب. ويا ليتهم يعرفون ثراء تراثنا الشعبي، وأصوله وفروعه، وضروبه وشؤونه؟
كيف يمكن الانتفاض ضد القبض في الصلاة، واعتباره مهددا للهوية المغربية، والسكوت عن صور الخلاعة والتهتك في الحياة العامة، والصور الخادشة للحياء في التلفزة العمومية، والزعم بالتفتح والتسامح، وما شابه ذلك من كلمات لا تحمل معنى؟
وكيف لمن كانوا يملؤون الدنيا صخبا زعما بالدفاع عن حُرُمات الدين ضد الخصوم، يلتزمون الصمت عن حرمات الإنسان، وحقوقُهم تُنتهك جهارا، وحرمة بني آدم أعظم عند لله من حرمة البيت المكرم، كما في حديث الصادق المصدوق؟
وكيف لمن هو سادن للعدل، أن ينتصب ناطقا باسم الجَور، ويَعتبر تطبيقا للقانون ما اعتُبر تأدبا مقاربةً أمنية، وما هو في حقيقة الأمر شطط. وقس على ذلك؟
فرغت للتو من قراءة كتاب لواحد من منظري الاستعمار البريطاني في مصر، مَن كان مندوبا ساميا للتاج البريطاني في مصر، لورد كرومر، في كتاب له مرجعي “مصر الحديثة” Modern Egypt، يقول فيه إن داء الشعوب الشرقية أنها تعدم الدقة في التعبير، والمطابقة بين التعبير والواقع… وقياسا لا يمكن أن تتحرر من دون تحرر سلوكها، ولا يمكن أن يتحرر سلوكها من دون الدقة في المفاهيم، وفي مطابقة الدال للمدلول. فماذا يفيد أن نستعمل تعبير المفهوم الجديد للسلطة لندلل على الشطط، والمصالحة لتعميق الإحن، والتسامح لتكفير من يصلي بالقبض، والتعليم لنوغل في الميوعة والابتذال؟
فلعل أن يأتينا العيد المقبل وقد استحضرنا هذه الحكمة التي كنت حفظتها بالثانوية مع أتراب لي، من وصية الإمام علي كرم لله وجهه لابنه الحسن: فإن الكف عن حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير