حينما سقط حائط برلين فتحت جريدة “البيان” المغربية باللغة الفرنسية، التي كان يديرها المرحوم ندير يعتة، صفحاتها لخيرة مثقفي المغرب حينها لفهم تداعيات التحول العميق الناجم عن ذلك الحادث، وطرح أسئلة حول المآلات الممكنة، وعدم التنصل من النقد الذاتي. وحينما جنحت ناقلة بترولية “خرج 2” في عرض مياه المغرب، سنة 1990، فتحت جريدة “الاتحاد الاشتراكي” سلسلة من الحوارات بعنوان “لفهم ما جرى”، واعتبر مثقف وازن من عيار فتح لله ولعلو من أن جنوح تلك السفينة هو بمثابة تشرنوبيل مغربي، على اعتبار أن التسريبات الشعاعية لمفاعل تشرنوبيل النووي هو ما قوض الاتحاد السوفيتي وقبضته الحديدية. وبالفعل، عرف المغرب منذ ذلك الحين نقاشا مثمرا حول أوضاع المرأة وحقوق الإنسان ودور المجتمع المدني.
كان هناك حوار عميق، وجرأة في طرح الأسئلة من زوايا عدة لقضايا متشعبة. يعيش العالم تحولات غير مسبوقة، منها إغلاق قوس ما بعد سقوط حائط برلين، وترنح النيوليبرالية، وعودة القضايا الاجتماعية إلى الواجهة في العالم، وحراك العالم العربي. واللافت هو انعدام فضاءات للحوار لفهم ما يجري كما كان الأمر قبل ثلاثين سنة.
طُرحت قبل أكثر من ثلاث سنوات ضرورة الارتقاء بمنظومتنا التعليمية، ولم يواكب ذلك نقاش جاد، سوى ما يجري في أروقة مغلقة، وطرحت قضية النموذج التنموي، كما لو أن المسألة تقنية صرف، أو معادلة رياضية وليست تصورا للمجتمع وفق محددات عدة، داخلية وخارجية، متشعبة ومتداخلة. الحوار أحد أدوات الفهم، والفهم هو أحد السبل للتهيؤ والتحصين ضد كل الاحتمالات الممكنة.
لماذا نعدم الحوار حول قضايا جوهرية؟
يبدو لي أن المسألة مرتبطة أولا بسياق عالمي، حيث طمرت غزارة المعلومات المعرفة الحقيقة، كما يقول الشاعر تي إس إليوت «أي المعارف اكتسبناها من شتى المعلومات»، وثاني الأمر يعود إلى هيمنة المقاربة التكنوقراطية التي تجعل الحوار تمرينا تجميليا أو صوريا، على اعتبار أن كل شيء محسوم مسبقا، ويعطى للقوى الحية وفعاليات المجتمع الشعور والإحساس بأنها تشارك في صياغة القرار.
هذه الأدواء كلها ليست قصرا على المغرب وإنما هي اتجاه عالمي. لكن هناك أشياء مرتبطة بنا أكثر مما هي مرتبطة بسياق عالمي. منها أن الحوار ليس عندنا ثقافة، ولا سلوكا، ولا نحسن استخلاص عصارة الحوارات الجارية التي تتبدد كما تتبدد السيول في الصحراء. والعامل الثاني هو تواري المؤسسات التي من شأنها أن تحتضن الحوار. توارى دور الجامعة، وتعيش الصحافة المكتوبة أزمة بنيوية، إذ تراجع تأثيرها، بالنظر إلى ظهور الصحافة الرقمية والمواقع، وهي لا تسعف في طرح قضايا بالتعمق اللازم، فضلا عن غلبة مواضيع الإثارة عوض طرح القضايا. ورغم الطفرة التي تعرفها بعض مراكز البحث، فقد ظلت مغلقة، ونخبوية. هذا فضلا عما تعرفه الأحزاب والنقابات من أزمة داخلية، بنسب متفاوتة، جعلها غائبة عن النقاش حول رؤية مجتمعية. من البديهيات أننا لا نرتقي بالرياضة، وننجح في اقتناص المواهب من دون بنيات، كذلك الأمر بالنسبة للفكر، فالفكر ليس فلتة أو جهدا شخصيا، وإنما محصلة بنيات وثقافة وقواعد ومؤسسات.
كنت دوما أردد بالنسبة للمقاربات التكنوقراطية قبل عشر سنوات، حينما كنت أسمع كثيرا من التكنقراطيين يتحدثون في وثوقية عن البرنامج الاستعجالي في التعليم، أو محاربة الفقر، مقولة أمريكية تقول: «إذا أردت أن تعلم اللاتينية لجون، فليس من الضروري أن تعرف اللاتينية ولكن يتوجب عليك معرفة جون». لم أقتنع حينها مما كنت أسمعه من خيرة التكنقراطيين الذين لم يزاولوا الأمور ولم يحتكوا بالواقع من أن وصفات جاهزة يمكن أن تعالج قضايا معقدة. إذ المطلوب ليس وصفات تملى بل قراءة الواقع والاستماع للمعنين وعدم تقديس النصوص القانونية التي ينبغي التعامل معها بمرونة لخدمة المعنيين. كتبت ذلك قبل زهاء عشر سنوات أنتقد فيه المقاربة التكنوقراطية في كل من ملف التعليم وفي محاربة الفقر، في كتابي “مرآة الغرب المنكسرة”، وها نحن أولاء نتفق جميعنا على فشل البرنامج الاستعجالي في التعليم، وعلى فشل نموذج التنمية.
لا عيب أن نخطئ، ولكن العيب التمادي في الخطأ.
مما كنا نَدرس ونحن صغار نصيحة المهلب بن صفرة لبنيه، وقد أعطى كل واحد حزمة من خشب استعصى عليهم كسرها، حتى إذا وزعت سهل كسرها، للتدليل على أن الاتحاد قوة.
لا جدوى من وصفات تسمى حوارا، لا تأخذ بعين الاعتبار دينامية المجتمع والتحولات العالمية الجارية.
هل حقا المنطق السليم هو الشيء الموزع بالإنصاف كما يقول ديكارت؟ وهل يصلح العطار ما أفسده…. العطار.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير