تناقلت وسائل الإعلام بالخبر والصورة الحية فاجعة مقتل شرطي مرور بطنجة دهسه سائق عمدا، ممن يسمون بـ«الشناقة»، ليلقى الشرطي، والمسمى قيد حياته رشيد شحتوتة، حتفه جراء ذلك.
لقد كتبت قبل زهاء سنة، جراء فاجعة ذهب ضحيتها مواطن مغربي، «كلنا كريم لشقر». ومن الواجب أن نقول ذات الشيء عن شرطي يلقى حتفه وهو يزاول مهامه ويضطلع بمسؤولياته. إن لم نفعل، فلسوف يكون موقفنا مجروحا، كما لو أنه يصدر من نظرة مسبقة أو ينبثق عن موقف إيديولوجي لا يرى الحق إلا في جانب، والشر في جانب آخر.
أصبحت القضية أمام أنظار القضاء، ولا ينبغي التأثير على مجرى الأحكام في اتجاه أو آخر، ولكن ذلك لا يعفي من التفكير في أبعاد الحادث، لأن الجريمة، ولا يمكن أن يجادل أحد في ذلك، استهدفت شخصا يمثل الدولة وهو يزاول مهامه، ولم يصدر عنه، مثلما ثبت بالصورة، افتئات أو شطط. وبتعبير آخر المستهدف هو الدولة في شخص المرحوم رشيد شحتوتة.
ما الدولة؟ هل هي أداة زجرية، وتسلطية بيد فئة تحتكر وسائل العنف المنظم، لفائدة منظومة، أو أوليغارشية، أم هي تعبير عن عقد اجتماعي غايته المصلحة العامة وأداته القانون..؟
المفهوم الأول ينطبق على الأنظمة الشمولية والاستبدادية أو المحتلة، وأنظمة الأبارتيد أو العشائرية أو الإليغارشيات. هذا الفهم الزجري للدولة هو الذي يفضي إلى رد فعل يجنح للعنف من لدن عناصر أو شرائح لا تجد نفسها في المنظومة الحاكمة، ويكون العنف مُسوَّغا بالنظر إلى طبيعة الدولة القسرية، ويأخذ أشكالا عدة، إما انتفاضات أو حروبا أهلية أو عصيانا مدنيا أو القيام بعمل تخريبي. وغالبا ما تكون هذه الفورات مؤشرا عن انتفاء العقد الاجتماعي أو تحلله.
أما المفهوم الثاني الذي يجعل الدولة تعبيرا عن عقد اجتماعي فهو السائد في الدول الديمقراطية حيث تعبر الدولة عن عقد اجتماعي، تضطلع الدولة بمقتضاه بأهم وظيفة لها وهي الأمن، ثم ثاني وظيفة لها وهي الوئام المدني، وثالثا تسعى سعيها في تحقيق الرفاه. وتحتكم الدولة وفق هذا المفهوم إلى القانون، وتقوم على مؤسسات هي محط احترام وتقدير من لدن شرائح المجتمع ومكوناته، وتحيط القيّمين على تلك المؤسسات بواجب الاحترام ماداموا يزاولون مهامهم، وتتعامل بحساسية مفرطة إذا ما صدر عنهم ما يعتبر انتهاكا للعقد من خلال شطط ما، أو استغلال نفوذ، أو زيغ عن ذلك. هذه أدبيات يعرفها كل طالب في العلوم السياسية، ذكّرت بها، ليس لنفهم ما جرى فحسب، ولكن لنسعى في ترسيخ المفهوم الثاني. ذلك أننا نعيش وضعا انتقاليا، عرف من ذي قبل الشطط، ولم يبرأ بعدُ من ترسبات ومخلفات، ومن جهة أخرى ما تزال فعاليات مدنية تنظر إلى جهاز الأمن نظرة يطبعها التوجس والريبة، ولا ترى فيها أداة لحماية العقد الاجتماعي، بل جهازا تسلطيا.
بدا جليا، في دولة ديمقراطية عريقة، هي فرنسا، بعد أحداث شارلي، التقدير الذي يكنه الفرنسيون لرجال الأمن، ولم يروا في هذا التقدير مساسا بتراث حقوق الإنسان والمواطن، بل ضمانة له.
اصطفافنا مع رجل أمن لقي حتفه وهو يزاول مهامه، جراء جريمة، هو اصطفاف لمفهوم الدولة باعتبارها عقدا اجتماعيا، وتغليب لهذا الفهم.
في مارس المنصرم أوقفني دركي وأنا في سيارة مع ثلة من النشطاء الأمازيغيين، على مستوى أداروش في اتجاه مريرت، بدعوى أن المسافرين في المقعد الخلفي لم يضعوا أحزمة السلامة، لم أجادل في «المخالفة»، وسألته لم لم يوقف أصحاب سيارات لم يضعوا الأحزمة الخلفية، فتعلل بأن «القانون» لا يسمح له بتوقيف سيارتين في ذات الوقت، وأراني الدركي السّجل المنظم للمخالفات، فاعتذرت أنه لا يلزمني لأنه غير مكتوب باللغة الأمازيغية، ورد أني أتكلم بالعربية، فعقبت بأن هناك انتهاكا صريحا للدستور، وبدا أن الأمور اتخذت مجرى لم يهيأ له الدركي يمس بالأساس العقد الاجتماعي، فانزوى ليجري مكالمات، وليقدم لنا الأوراق بعدها. ألححنا على أداء «الذعيرة». ورد الدركي على مناداتي إياه بالأستاذ، أنا «غير جدارمي»… عقبت أمام الملأ: أنت تمثل الدولة. لست أؤاخذ هذا الشخص، ولا أريده أن يتعرض لتأنيب. لم يستبطن بعدُ ما الدولة. استبطن قواعد معينة أساسية منها الانضباط مع رؤسائه، والائتمار بالتعليمات، ولكن لم يستوعب ما الدولة باعتبارها مفهوما لعقد الاجتماعي يتعين على الجميع حمايته، وأن عنصري هذا العقد هما الشعب من جهة، والدولة من جهة، ولا ينبغي أن ينظر إليهما نظرة تضارب. لم يستبطن هذا الأمر، لا لأنه غير قادر عل استيعابه، بل لأنه لم يُعلّم ذلك. والمعلمون ليسوا رؤساءه وحدهم، ولا هي مجرد قواعد، بل ثقافة وسلوك كذلك.
كلنا رشيد شحتوتة لا ينبغي أن يصبح حدثا عابرا، أو شعارا فقط، بل رمزا. رمز نُرسّخ من خلاله مفهوم الدولة باعتبارها عقدا اجتماعيا.