تثير الأنباء القادمة من بروكسيل الاندهاش لمدى عمق الجذور الإرهابية في التربة البلجيكية. كيف يرحل مواطنون بلجيكيون مسلمون، ولدوا ونشؤوا في مجتمع ديمقراطي علماني عصري، خارج التاريخ نحو همجية «داعش» المستوحاة من تمثلات إيديولوجية لما كان عليه الإسلام قبل 1400 سنة؟
يقال الكثير عن الأسباب… لكن الأكيد أن جزءا من التفسير يكمن في فكرة الخصوصية الثقافية السائدة في أوربا. يبني الأصوليون، عموما، أطروحتهم حول مسلمي أوربا على فكرة أن دينهم هو الحق وما سواه باطل، جملة وتفصيلا، فمن حق المسلمين الطبيعي، إذن، أن يعيشوا “هويتهم» الإسلامية المستقلة عن الهوية الوطنية للبلدان التي يحملون جنسيتها.
يبدأ السعي لإثبات هذه «الهوية» بتفاصيل صغيرة وقد ينتهي بالمطالبة بتطبيق الشريعة في أوربا. هكذا فعل أحدهم بدعوته «Chariaa 4 Belgium» (من أجل تطبيق الشريعة ببلجيكا)، التي ظلت السلطات البلجيكية تتفرج عليها قبل أن توقفها أخيرا، لكن بعد أن صار بعض دعاتها قادة بارزين في كتائب «داعش»؟
لماذا ظلت السلطات البلجيكية تتفرج على مثل هذه الحماقات المعارضة للقوانين والحقوق والحريات؟ ليس الأمر كله جزء من الحرب القذرة التي تستعمل فيها أطراف معروفة الإرهابيين ضد النظام السوري، فهنالك أساس إيديولوجي لهذا التواطؤ المدهش مع السلفيين الجهاديين. إنها فكرة الخصوصية نفسها، وإن حملت هذه المرة تسمية «التعدد الثقافي».
في مواجهة العنصرية ضد المسلمين، والمهاجرين منهم خاصة، يدعو البعض للمحافظة على «حقهم» في خصوصياتهم الثقافية… على النقيض من ذلك تبرز فكرة «الإلحاق»، التي تعتبر أن على المسلمين، ما داموا أوربيين، الاندماج في الثقافة الأوربية، والخضوع لمبادئها حيثما تناقضت مع ما يفترض أنها خصوصياتهم الدينية. بعبارة أخرى، الخضوع التام لمبدأ العلمانية في كل ما يتصل بموقع الدين في المجال العام. يستعمل بعض العنصريين هذه الفكرة بسوء نية ما يبعدها عن جوهرها الإنساني. الواقع أن فكرة الخصوصية هي التي تنطوي فعلا على جوهر عنصري، وتسيء للمسلمين من حيث لا تدري. فهي تفترض أنهم قلة معزولة عن بقية العالم المتحضر، يحق لهم العيش على الهامش، والحفاظ على ما كانوا عليه من تقاليد ميتة… لا ينتبه دعاة هذه الفكرة إلى أنها تقود الأوربيين المسلمين، منطقيا، إلى الولاء – ذهنيا وروحيا – لـ«أمة المسلمين» المتخلية، بدل الولاء للأمم الأوربية التي يتقاسمون مواطنتها مع غيرهم من أتباع الديانات الأخرى. ليس عجبا أن يدفع بعضهم هذا الانعزال إلى حده الأقصى، إلى ما يجسد عمليا تلك الأمة المتخلية، أي «دولة الخلافة» الهمجية هاته! قد يعترض البعض على إدماج المسلمين في الثقافة الأوربية بدعوى أن الثقافات متساوية فلماذا يطلب من المسلمين الاندماج في ثقافة غيرهم؟
ينكر هذا الاعتراض واقعا عينيا في التاريخ، واقع التقدم والتخلف، ثمة تاريخ كوني يوحد البشر أجمعين وفي إطاره متقدمون ومتأخرون، ولا خيار للمتخلفين سوى اللحاق بركب المتقدمين للاستمرار في هذا التاريخ الكوني. من يجادل اليوم في أن أوربا تحتل صدارة المتقدمين في مسيرة البشرية نحو الأفضل؟.
هذا التقدم، بعد أن وقع فعلا في التاريخ الأوربي، حمل تسميات معينة لتقريبه من الأذهان، فيقال «علمانية»، «لبيرالية»، «عقلانية»، «نسبية»… وصار متاحا لجميع البشر. من ينكر على المسلمين، أوربيين أو غير أوربيين، حقهم في هذه القيم الكونية، يحكم عليهم بالبقاء خارج التاريخ. أو ليست «داعش» أبشع صور الخروج عن التاريخ.
إسماعيل بلاوعلي