تسعى الحكومة لإحداث ثورة في بنية الدولة المغربية. لأول مرة منذ تأسيس الدولة العصرية في بلادنا، أثناء الحماية، يعلن أصحاب القرار توجههم نحو خوصصة الإدارة العمومية. هذا ما يفهم من مشروع استبدال التوظيف بالتعاقد مع “ّأجراء”، يؤدون مهام الخدمة العمومية في أجل محدد.
ها هو محمد مبديع، وزير الوظيفة العمومية وتحديث الإدارة، يكشف أنه سيعلن تصورا جديدا “لا يوظف فيه أحد في الوظيفة العامة إلا بواسطة عقد أو تعاقد، وستصبح الوظيفة حينها مثلها مثل العمل في القطاع الخاص، أي أن مستقبلها ومسارها مرتبط بمردودية الموظف”، كما نقل عنه موقع “اليوم 24”.
يبرر الوزير هذا “الإصلاح” بتحسين فعالية الإدارة العمومية، وهذا مطلوب فعلا. بيد أن عناصر أخرى تظهر أن هذا حق يراد به باطل، وأن هذا المشروع جزء من سياسة منسجمة تحكمها خلفية إيديولوجية واضحة.
ثمة خيط ناظم بين مشروع خوصصة الوظيفة العمومية هذا، والطريقة التي تريد بها الحكومة فرض الخدمة الإجبارية على خريجي كليات الطب العمومية لسنتين يسرحون بعدها. وبين عدم توظيف الأساتذة خريجي المراكز الجهوية للتكوين إلا بعد اجتيازهم مباراة، رغم أن ولوجهم أصلا لتلك المراكز تم عبر مباراة، وعلى أساس الحاجة إليهم في كل جهة من جهات المملكة.
وحدها الخدمة “الأمنية” ستظل في منآى عن هذا التخلص المنظم من واجبات الدولة. كما كشف الوزير مبديع في حواره للموقع المذكور أعلاه، أن “الإصلاح” لن يشمل نظام التعاقد موظفي الشرطة والجيش وكافة المؤسسات الأمنية الأخرى. فالقضية إذن قضية أولويات سياسية، وليست قضية فعالية.
الواضح أن الدولة تتجه بكل بساطة للتخلي عن مبرر وجودها، أي توفير خدمات عمومية للمواطنين يؤديها “موظفون”، في التعليم والصحة والأمن والنقل… وغيرها من الخدمات الأساسية. أليس هذا معنى الدولة؟ خدمات عمومية مستحقة للمواطنين مقابل الضرائب التي تجبى من جيوبهم وجوبا، بل من الموظفين منهم بالأساس، إذ هم الفئة الأكثر أداء للضريبة على الدخل.
الأدهى أن الحكومة تتذرع بعذر غير صحيح. يقال إن عدد الموظفين كثير، ومردوديتهم ضعيفة. المردودية تناقش فعلا، لكن الواقع أن العدد قليل جدا. فالعجز ليس عجز ميزانية الدولة فقط، بل هو أساسا عجز الخدمة العمومية. وزير الصحة نفسه، ما فتئ يذكر بالخصاص المهول في عدد الأطباء بالقطاع العام، وعليه بنى مشروعه لفرض الخدمة الإجبارية على الخريجين الجدد منهم، سوى أنه يفضل تسريحهم بعد سنتين فقط !
ليس سرا أن ما يسمى “التحكم في كتلة الأجور” هو العنوان الحقيقي لهذه السياسة. لتخفيف عجز الميزانية لجأت الحكومة منذ تعيينها في 2012 إلى تقليل النفقات، ونجحت في ذلك فعلا. لكن كما يقع عادة في بلادنا، لا تحل أزمة العجز برفع المداخيل، بل بالاستدانة والسعي لتقليل النفقات، فيستمر الدوران في حلقة مفرغة منذ أمد بعيد.
لا تعترض المعارضة البرلمانية على هذه السياسة، وقد تحداهم رئيس الحكومة يوما، أن يعلنوا نيتهم التراجع عن قراراته إن حلوا محله.
تفترض هذه السياسة أن أجور الموظفين عبء ثقيل على ميزانية الدولة، فمن الطبيعي إذن التخلص منه لتقليل العجز. تماما كما يقع في أية مقاولة يعمد مالكها لتسريح الأجراء، عندما تقل فرصه في الربح، أو يتهدده الإفلاس. سوى أن الدولة ليست مقاولة. لا يمكنها أن تكون كذلك، خاصة في بلد متخلف مثل المغرب، إنتاجه محدود، وتوزيعه غير عادل، فلا تملك سوى أقلية قليلة تحمل نفقات التعليم والتطبيب والتنقل… في القطاع الخاص.
لا يمكن للدولة في المغرب إلا أن تكون دولة كاملة المعنى، تجبي الضرائب بالعدل، وتوفر الخدمات العمومية للجميع. وإلا فالخطر بديهي. تعميق الانقسام في المجتمع، وتهديد تماسكه واستقراره.
إسماعيل بلاوعلي