أصدرنا، منذ ثلاث سنوات، العدد الأول من مجلة “زمان” في نسختها الفرنسية، وكتبنا حينها في افتتاحية العدد “أن تخصيص مجلة بكاملها لتاريخ المغرب بكل تجلياته وشعابه الوعرة مشروع طموح، وإنجازه مليء بالمفاجآت، وقد تصاحبه مخاوف جراء الأفكار المسبقة والصور النمطية المتجذرة في الأذهان. والمشروع واسع بلا ضفاف للتعقيد الملازم للمقاربات التاريخية، ولتعدد مناطق اللبس والعتمة”. وشددنا في افتتاحية عدد أكتوبر 2010 على بعض النقاط الأساسية لتوضيح الرؤية، ونعيد صياغتها اليوم على ضوء التجربة المتميزة للنسخة الفرنسية.
من خلال السنوات الثلاث الماضية من تجربة “زمان”، تكسرت أمامنا صورتان نمطيتان: الأولى أن المغاربة شعب لا يقرأ، وهو أمر قد يكون صحيحا بالنظر إلى الأرقام التي نطالعها يوميا حول معدلات القراءة في البلاد. لكن، عندما تقدم للقراء منتوجا إعلاميا جادا ورصينا في كل المجالات، (سواء كانت سياسية، اقتصادية أو ثقافية)، يحترم ذكاءهم ويستجيب لانتظاراتهم، فإنهم بالتأكيد يحتضنونه. الصورة الثانية هي أن “التاريخ بضاعة كاسدة”، وقد أثبت النجاح الذي حققته النسخة الفرنسية من “زمان” أن هذا الحكم المسبق مجانب للصواب، بدليل أن معدل المبيعات، شهريا، يقارب % 80 من السحب.
للتذكير، مجلة “زمان” لا تطمح إلى إعادة كتابة تاريخ المغرب، وهي لا تحمل توجها إيديولوجيا معينا تنظر من خلاله لتاريخ المغرب. فالتاريخ تركيب علمي بين مادة مصدرية، قوامها وقائع وأماكن وبشر، وبين أفكار وآراء ومقاربات منهجية دقيقة. التاريخ ليس فقط نشاطا أكاديميا محصورا في وسط جامعي للبحث العلمي، بل هو أيضا منتوج يثير فضول فئات واسعة من القراء. لذلك من أهدافنا تمكين جمهور واسع من القراء من الاطلاع على “تاريخ المغرب” وفق الصياغات الجديدة للباحثين المختصين. يستدعي هذا الهدف بالضرورة مجهودا للتوضيح والتبليغ، ونحن واعون أن الأمر لا يتعلق بعملية تبسيط، بل بتواصل يضمن في نفس الآن الحفاظ على الأسس المنهجية لعلم التاريخ والإحاطة الإيجابية للقارئ بالخطاب التاريخي، وشعوره بمتعة الاطلاع وعمق الإفادة. فهمنا اليومي، بكل بساطة، هو التفاعل مع رغبات القراء في إشفاء غليل الفضول الطبيعي في الإحاطة بماضي بلدهم، وفي تمكينهم من التموقع بين الحاضر والتوق للمستقبل.
إن تجربتنا، عبر النسخة الفرنسية طيلة ثلاث سنوات، أظهرت أن طلب المغاربة لمعرفة تاريخ بلادهم طلب جدي ومتنامٍ. وجمهور القراء بالعربية شغوف إلى منتوج من نفس عيار النسخة الفرنسية لـ”زمان”.
وإن تأخرنا شيئا ما في الاستجابة لهذا الطلب، فإن الأمر ارتبط بالحرص على أن يشتد عود المولود الأول، النسخة الفرنسية، قبل إطلاق المولود الثاني الذي تجدونه الآن بين أيديكم. إن الطلب على المعرفة التاريخية يتجلى في مستويات عدة: على صعيد الدولة ومؤسساتها، في قلب النشاط الثقافي وما يصاحبه من دعوات لحفظ الثرات، وفتح المجال للذاكرات المتعددة للمغاربة.
سنستمر، وفق خطنا التحريري، في مواكبة الدينامية الفاعلة داخل الدولة وداخل المجتمع لبلورة تملك جماعي لماضينا. ونود تذكير قرائنا أننا لا ندعي امتلاك الحقيقة التاريخية المطلقة. فنحن مثل المؤرخين نقول بالحقيقة النسبية، وبأن للوقائع والظهائر قراءات وتأويلات، ولا فيصل فيها إلا للمحاججة العلمية والحوار الإيجابي. لذلك اعتمدنا، وسنعتمد، فتح المجال للمقاربات المنهجية المختلفة، للآراء المتباينة، للطروحات المتعددة حتى التي تبدو غريبة ومنفردة في معالجتها ومنطوقها. فإن كنا نفرق بين “الذاكرة” كمادة خام و”التاريخ” كتركيب علمي، فإننا نحرص على إيصال كل الأصوات إلى القارئ لتمكينه من تشكيل تصوره الخاص. فنحن نقترح، والقارئ حر في التقاط ما يروق له.
من نافلة القول التشديد على أننا لا ننشر ما يمكن أن يكون مادة للتجريح أو الإساءة المقصودة لأفراد أو جماعات. فمشروع “زمان” لم يؤسس، قط، ليكون فضاء لتصفية حسابات كيفما كان نوعها، ولا ممرا للإشعاع الخادع.
لضمان جدية المشروع، ونوعية منتوجه وديمومة تواصله مع القراء والمشتغلين بالتاريخ والمهتمين به، سعت “زمان” وتسعى إلى توطيد شراكة متميزة مع المؤرخين المحترفين ومع أهل المعرفة والفكر. كما ان الدراية المهنية المراكمة منذ 2010، والناتجة عن التفاعل الإيجابي بين أهل الفكر وأهل الإعلام، ستساعدنا أكثر على الاجتهاد في معالجة إعلامية ومهنية للمنتوجات التاريخية. فهي عصارة جهد جماعي يتوخى التلقيح المشترك لدرايات مهنية متقاطعة ومتكاملة. وبطبيعة الحال، فهذه الثمرة المشتركة لن تستقيم ولن تثمر إلا بملاحظاتكم وإضاءاتكم وتقويماتكم، وأساسا انتقاداتكم البناءة.
المجلة مجلتكم، فاحتضنوها لتنمو في اطمئنان.
يوسف شميرو
مدير النشر والتحرير