لا يمكن أن نَغفل عن أن أسباب كثير من تجليات الحراك هنا وهناك، بفرنسا مع السترات الصفراء، وبالجزائر كما المغرب، له جذور اجتماعية. ولذلك، لا يمكن أن تُفصل القضايا الاجتماعية عن تداعياتها السياسية. تتحول قضايا اجتماعية، حينما لا تُعالج في الوقت الذي ينبغي أن تعالج فيه، إلى قضايا سياسية، ومن قضايا سياسية إلى قضايا دستورية فوجودية، قد تذهب إلى أن تعيد النظر في القواعد القائمة والمنظومة السارية.
توارت القضية الاجتماعية مع تفشي الخطاب النيوليبرالي، وسرى الاعتقاد أنه بحل القضايا الاقتصادية تُحل القضايا الاجتماعية بالتبعية. كان يُعتقد بأنه يمكن تجاوز اختلالات سوء التوزيع بعمليات بعدية، أي كان التفكير السائد هو معالجة أعراض الفقر والاختلالات لا أسباب الفقر. كان هذا هو الاختلاف البيّن بين مدرستين، وما يزال الاختلاف قائما بين من لا يرون إلا الأعراض، ومن يذهبون أبعد إلى الأسباب. وهو السجال القائم بفرنسا اليوم.
الذي يهمنا ليس ما يجري في فرنسا، وإن كنا ندرك تداعياته على البلدان المرتبطة بها ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، ولكن الذي يهمنا هو ما يجري في المغرب. هناك اتفاق على تعثر ما سمي بالنموذج التنموي المغربي، وليس النموذج المغربي إلا صورة لما كانت تبثه أدبيات منظومة بورتن وودس، مما كان يسمى بتوافق واشنطن. ولعل من أسوأ القرارات التي اتُخذت جراء تلك الإملاءات ما سمي بالمغادرة الطوعية والتي استنزفت الإدارة، وأفرغتها من خيرة أطرها، وتبدو آثارها السلبية في الجامعة بالأساس. أو بعض عمليات الخوصصة التي تمت بطريقة متسرعة وفطيرة، ولربما من خلال ترضيات Cronies أو تحت ضغط بعض المحترفين والمحتالين الذين كانوا يوظفون الاضطرابات الاجتماعية.
«البكا من ورا الميت خسارة» كما يقول المثل المغربي. ولكننا لا يمكن أن نفكر النموذج التنموي وفيه من دون أن نجعل المسألة الاجتماعية في لب الأولويات، وأن نفكر فيها بناء على واقعنا وأولوياتنا. والذي يبدو من خلال اجتهادات كثير من التقنقراطيين وبعض الأحزاب السياسية اليمينية أنها تنظر إلى الأعراض لا إلى الأسباب.
وأنا أرى أنه لا يكفي أن ننظر إلى الأعراض، إذ ينبغي أن نذهب أبعد، وهو الأمر الذي يتطلب إعادة النظر في دور الدولة، والانتقال من الدولة المبسطة أو المسهلة، كما نادى بذلك بعض التقنقراطيين، إلى الدولة الضابطة أو المتدخلة.
بغض النظر عن هذا السجال النظري، كيف يمكن مثلا أن تُمنح رخص استغلال المناجم لأشخاص يحسنون التحايل القانوني، وتُحرَم الساكنة التي قد لا تحسن استعمال الوسائل القانونية. كيف يمكن أن يطلق المخطط الأخضر الأيادي للفلاحين الكبار، ولا يتم التفكير في تعاونيات فلاحية لفائدة الشباب، مع تأطير للإدارة؟ كيف تم تفويت أراضي التعاونيات الفلاحية لكي تكون لقمة سائغة للمضاربين العقاريين عوض أن تعود للدولة؟ كيف لمكتب دراسات أن يفكر في قضايا فلاحتنا في جهل لواقعنا في البوادي؟ كانت هذه الملاحظات قبل إثني عشرة سنة تبدو تخرصات، ولكن الآن مع تعثر المخطط الأخضر، تبدو ذات وجاهة.
يُجمع الخبراء على أن هناك قواسم مشتركة فيما يخص القضايا المجتمعية أو سدى مشترك. وهي التعليم والصحة والسكن والشغل والتصدي للخصاص (أو محاربة الهشاشة كما يقال في أدبيات اليوم)، وهي ما يسمى بالعمالقة الخمس للقضية الاجتماعية. هي المداخل الكبرى للمسألة الاجتماعية، وغالبا ما اكتست هذه القضايا في بلادنا عبئا وليس استثمارا، فليس هناك ما يسمى بعودة الاستثمار في قطاع التعليم مثلا.
لسنا من قبيل العدميين ممن يقول ألا شيء أنجز، وحتى إن كانت هناك أخطاء فالأخطاء قدَر من يعمل، ولا يخطئ إلا من لا يشتغل، ولكن مع ذلك هناك شيئا لا يمكن أن نتستر عنه، هو أولوية معالجة قضايا سياسية كي يتاح لنا أن نتصدى للقضايا الاجتماعية في هدوء. لا بد من استرجاع لحمة البلد أو الوئام المدني. لا يمكن أن نذهب بعيدا ونحن موزعو الأفئدة. أن يكون اختلاف حول قضايا تدبيرية، أمر طبيعي بل صحي، ولكن أن يتم المساس ببنود العقد الاجتماعي الضمنية، فهو ما سيصرفنا إلى تبديد الطاقات وإهدار الجهود.
الدولة هي التعبير الأسمى للعقد الاجتماعي، وهي أداة الصالح العام، وحينما تتحول إلى أداة لصالح فئة من النافذين يختل العقد. هذا جوهر المشكل في كثير من الاضطرابات التي تعرفها بلادنا. ليس الفاعلون السياسيون إلا وعاء لأفكار تحركهم، وليست الأفكار إلا نتاج موضوعي لواقع. فالواقع هو ما يحدد وعينا، لا وعينا من يحدد الواقع. حقيقة يعرفها أي طالب مبتدئ في العلوم السياسية، ولا بأس أن نذكر بها ممارسي السياسية، أو ممتهنيها.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير