يعيش العالم ما يسميه البعض بالاحتباس الديمقراطي، وهو شبيه بالاحتباس الحراري، يفضي إلى الاتجاه نحو برودة التمثيل الشعبي، (عوض الحرارة الناجمة عن التقلبات المناخية)، ومرده ثقب طبقة الأوزون السياسي الذي يعزوه البعض إلى الظاهرة “الترامبية” (نسبة إلى دونالد ترامب الرئيس الأمريكي)، التي تؤشر على تحول في العلاقات العامة، باعتمادها الشعبوية ودغدغة مشاعر البسطاء أو الدهماء، وعدم انصياعها في العلاقات الدولية للمبادئ ولا للقانون الدولي ولا للمؤسسات الأممية.
التقرير الأخير لبيت الحرية Freedom House، الذي صدر الشهر المنصرم، يفيد بأن مؤشرات الديمقراطية ليست في أحسن حالها في العالم، سواء أتعلق الأمر بحرية التعبير، وحرية الرأي، وأوضاع الصحافة، ووضع الأقليات الدينية والعرقية أو حرية المعتقد، ناهيك عن الملاحقات التي يعرفها أصحاب الرأي، والتعامل الفظ مع وسائل التعبير الاحتجاجية… ويشهد العالم نزوعا سلطويا حتى في معاقل الديمقراطية، كما يعرف العالم عودة الرجل القوي، كما في البرازيل وتركيا، هذا فضلا عن الدول التي ليست لها أساسا مؤسسات ديمقراطية ولا ما يعبر عنها من انتخابات وأحزاب وبرلمان…
انتكاسة الديمقراطية تعود إلى سياق عالمي عقب 11 سبتمبر.
رفعت الولايات المتحدة الأمريكية عقبها راية الحرب على الإرهاب، وسحبت راية الديمقراطية وحقوق الإنسان… لم تعد الديمقراطية ولا حقوق الإنسان شأن دول، وإنما شأن منظمات دولية… وضاعف من اهتزاز الديمقراطية الوسائل الحديثة للتواصل التي تعتبر من وسائل التلويث، كما الأخبار الزائفة والتسطيح، والضحالة التي تنشرها وسائل التواصل الاجتماعية الحديثة، فضلا عن قولبة الرأي العام والشعبوية.
الأزمة الاقتصادية والهجرة وأخطار البيئة، فضلا عن الإرهاب، جعلت الشعوب عرضة للشك حول المستقبل، وتميل للاتجاهات التي تحضنها أو تخفف من المخاوف التي تساورها، وهي لذلك تُغلّب الأمن أو من يرفعه على الحرية.
يبني خصوم الديمقراطية دعواهم من أن الديمقراطية غير فعّالة بما تسهم من تشتت مركز القرار والضياع في الجزئيات، على خلاف السلطوية التي تتميز بالفعالية بتركز مركز القرار في سلطة أو شخص… ويشفعون بأن الديمقراطية غير مخولة للنجاح في بيئة ليس لها ثقافة ديمقراطية، ولم تعرف في تاريخها سوى السلطوية، كما روسيا، ويؤكدون أن الفورات الديمقراطية التي عرفها العالم العربي، ما لبثت أن انطفأت لأنها انبنت على ثقافات غير ديمقراطية، وتاريخ سلطوي موغل في القدم، وأفضت الانفراجات الديمقراطية إلى تأجيج التمايزات العرقية (العراق، ليبيا) والعقدية (مصر ما بين المسلمين والأقباط، اليمن، ما بين السنة والشيعة)، التي كانت السلطوية تدبرها بشكل ناجع، ولذلك فشيوع الديمقراطية يسيء أكثر مما يفيد…
هو ذا الاتجاه العالمي، وهو الأمر الذي يغطي العالم الغربي، مع صعود الاتجاهات اليمينية، ويؤثر في العالم العربي، بالانتكاسات المتوالية التي يعرفها المد الديمقراطي.
هل انتهى بريق الديمقراطية إذن؟ نعم، ليست هي أحسن نظام، ولكنها تظل الأقل سوءا حسب المقولة المأثورة. أما فعالية الأنظمة السلطوية فقد أثبت التاريخ جدواها على المدى القصير فقط، إذ تنطوي على إخفاء التناقضات وتبقي على التوتر مستترا حتى ينفجر بطريقة فجة. ثم إن مسلسل التاريخ يبين أن الديمقراطية هي مد تاريخي ومسلسل يكسب دوما على مر العقود، ومن مختلف الأرجاء والثقافات، والدليل أمريكا اللاتينية وأوربا الشرقية وبعض الدول الإفريقية. والأهم، هو أن الديمقراطية هي ما يستجيب للطبيعة الإنسانية من النزوع للحرية، ورفض الخضوع أو الوصاية.
فكرة الاستثناء الثقافي هي خدعة دفع بها الغرب، وبعض الاتجاهات اليمينية منه لإرجاء المسار الديمقراطي في العالم العربي… وما يزال لهذه الفكرة عرابوها.
خسران معركة ليس هو الهزيمة في الحرب، والانتصار في معركة، أو معارك، ليس دليلا على الانتصار في الحرب…
والزمن التاريخي ليس هو الزمن السياسي، ووحده القياس فيما نعيشه هو الزمن التاريخي.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير