لما انطلقت، من تونس، أحداث «الربيع العربي»، انضاف إلى القاموس السياسي العربي مصطلح «الدولة المدنية». ومثله مثل «المجتمع المدني» لم يرق إلى مستوى مفهوم مؤسس، بل ظل ملفوفا بموجة من الضباب لم تنقشع بعد. ومع ذلك، فالقول بالدولة المدنية يحيل على توجه نحو الدولة الحديثة، أي الدولة المنبثقة من نظام سياسي ديمقراطي تتأسس فيه الشرعية على الشعب مصدر السلطات، وتسمو فيه هذه الشرعية الشعبية على كل الشرعيات الأخرى مهما كان مصدرها أو تاريخها. يرتبط مفهوم «الدولة الحديثة والحداثية» بمفهوم آخر يقول بـ«فصل السلط» بالرغم من التداخل النسبي للحقول السياسية والثقافية والاقتصادية و…
«فصل السلط» هو بيت القصيد وهو المفهوم الذي تتردد ثقافتنا في استعارته وزرعه في تربتنا الأمازيغية العربية الإسلامية واستنباته وإعادة صياغته، واستبطانه إيجابيا كمنتوج محلي يربطنا بالأبعاد الكونية في الثقافة الإنسانية. فلأننا نتردد في التملك الإيجابي لمفهوم «الفصل»، فصل السلط وفصل الحقول، نتيه في إعطاء مضامين مشتركة لمقولات ضبابية مثل «مجتمع مدني» «ودولة مدنية». وهكذا نساهم، بوعي أو بدونه، في تضييع فرص العبور إلى الحداثة، وآخرها المخاض الشعبي لسنة 2011.
منذ الهزة الكبرى التي أحدثتها حركة 20 فبراير، لم تهدأ الموجات التي تعتصر الحقلين الاجتماعي والثقافي. فالحركات الاحتجاجية، بالرغم من طابع التبعثر، تتكاثر وتتسع لتشمل مجمل الفئات الاجتماعية ومعظم المناطق الجغرافية، كأنها صرخات إغاثة في شكل شحنات غضب لم يعد جسم المجتمع يحتمل كتمها. كما أن القوالب الثقافية الجاهزة وميكانيزمات منظومات القيم المحافظة لم تعد قادرة على تبرير الحيف والظلم الاجتماعيين اللذين يطالان فئات واسعة في المجتمع منها النساء والأطفال والأقليات المختلفة. وكلما أثيرت مسألة من هذا النوع، كلما طفت على الساحتين الثقافية والإعلامية ثنائيات غير منتجة من قبيل: نحن والآخر، الشرعي والمدني، الدين والدولة، المؤمن والكافر، القطعي والمؤول.. إلخ. فيعم التشنج، بل والتجييش ونلوح بالاقتتال، ولا نحسم شيئا، بل نعيد إنتاج عقمنا الثقافي وإحباطاتنا المتنوعة. خلال مناقشة مقترحات التعديلات الدستورية، في بحر سنة 2011، طرحت مسألة فصل الدين عن الدولة، وبالنتيجة فصل الحقل الديني عن السياسي. واستكمالا لما كان قد أقر رسميا، بعد التفجيرات الإرهابية لمايو 2003، والقاضي بفصل الديني عن السياسي، وعدم جواز جمعهما إلا من طرف أمير المؤمنين، تعرض البند الدستوري القائل بأن «المغرب دولة إسلامية» لمحاولة تعديل. فاقترحت الصيغة التالية: «المغرب بلد مسلم، تلتزم فيه الدولة بضمان حرية الاعتقاد والتدين وممارسة الشعائر الدينية»، وكان هدف المقترحين هو الفصل بين المعطى الثقافي ومركزية الإسلام في البنية الثقافية المغربية، وذلك ما تجسده عبارة «المغرب بلد مسلم»، وبين النظام السياسي الذي يضبط المؤسسات وشرعيتها، والمنافسات والصراعات من أجل السلطة، ودور الدولة في حماية القانون والحريات الفردية والجماعية. فالدولة ليست كل الكيان. هذه الصياغة المعتدلة جدا، والمغربية جدا، التقطتها اللجنة المكلفة بصياغة مشروع الدستور. فناقشتها، ويبدو أنها لم تعتمد إلا بالتصويت. ودخلت في المسودة الأولى للدستور معوضة عبارة «المغرب دولة إسلامية». ولم يدم الاستبشار طويلا، إذ سرعان ما انطلقت القوى المحافظة، حتى المعتدلة منها، لشن حرب هوجاء على هذا المقترح المعتدل، بل ذهب البعض إلى رفع سلاح التكفير والدعوة لقطع اليد التي كتبت هذه العبارة درءا للفتنة.
طبعا، سحب هذا التعديل تحت الضغط والتهديد، وثبتت الطبيعة الإسلامية للدولة المغربية، ولو أن منطوق الأبواب الأخرى للدستور يشي بحمولات حداثية. تعود، اليوم، أجواء الشحن والتكفير، بعد أن تعالت أصوات نسائية ورجالية منادية لمعالجة الحيف والظلم الناتج من التطبيق الحرفي للنصوص الشرعية حول الإرث، مطالبة بتأويل منصف للنصوص مساير للعصر ولثقافة حقوق الإنسان التي يبوئها الدستور مكانة رفيعة. من جديد يدفع المجتمع نحو الاحتقان. من جديد، ينصب البعض نفسه وصيا على الإسلام والمسلمين. ومن جديد، تخلط الأوراق، ويسمح للبعض أن يمارس الإرهاب الفكري باسم الشرع، وأن يدفع الناس للإجرام الفعلي بإضفاء الشرعية الدينية على سفك دم الكافر. يشرعن دعاة التكفير دعواتهم الإجرامية بقدسية النص القطعي وعدم جواز تأويله، متناسين أن علماء مغاربة أجلاء معترف بهم من ذوي الاختصاص ناقشوا وأولوا نصوصا قطعية وأقنعوا أهل الاختصاص، أي المؤهلين للفتوى الشرعية باجتهاداتهم. في المجال الخاص بقضايا الإرث، اجتهد عالمان مغربيان منذ قرون في هذا الباب. فدافع العالم عبدالجبار الفكيكي عن عدم إرث المرأة في الواحات الصحراوية مؤسسا ذلك على الملكية الجماعية واقتصاد الكفاف، وأسبقية تأمين الحياة الجماعية، كما أن العالم والمفتي الكبير ابن عرضون أفتى بمنح المرأة الغمارية أولا نصف الثروة التي راكمها الزوجان، ثم تمتيعها من ثمنها الشرعي في النصف المتبقي، وذلك لمساهمتها في كسب ثروة العائلة. وكلا العالمان تجادلا مع علماء القرويين وأقنعاهم بسداد اجتهاداتهما. للخروج من المنطق الثنائي الذي لا ينتج إلا التجييش والحقد والكراهية والعنف، يدعو البعض إلى اعتماد «الفقه المدني»، أي اعتماد المقاربة الجماعية المؤسسة على معطيات المكان والزمان والمتخلصة من القيود القطعية. يعكس هذا المصطلح، كسابقيه، صعوبة القول بالفصل بين الدين والدولة، والبحث عن طريق «حلال» لتأسيس مواطنة مغربية يكون فيها الدين أداة لسمو الفعل الإنساني، وليس قيدا لتخليد الحيف والظلم.
فلنجتهد جميعا، لتأسيسه كمفهوم محرر.
المصطفى بوعزيز
المستشار العام