يوحي الحقل السياسي المغربي بأنه مسرح لديناميات جديدة قد تفضي إلى إعادة ترتيبه خصوصا بعد أن بدا الحقل الحزبي في أردإ صوره. آخر تمظهرات هذا الصراع تتجلى في التصعيد الذي تشهده الساحة الإعلامية بين فرقاء داخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. فالفريق الذي كان يتزعمه الراحل أحمد الزايدي يسرب أخبارا حول عزمه الانفصال عن الحزب الذي يقوده إدريس لشكر، والاندماج في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي تحاول بعض قواعده وأطره في الرباط إحياءه وهيكلته وفق قانون الأحزاب الجاري به العمل.
معطيات هذه التحركات ما زالت جزئية وملتبسة، والنوايا الدفينة للفاعلين لم يفصح عنها بعد. ومع ذلك نتساءل هل يتعلق الأمر بجديد قد يؤدي إلى إعادة ترتيب الحقل السياسي، أم ما يجري ليس إلا فعلا مكرورا يهدف إلى بلقنة جديدة للحقل الحزبي في إطار ثوابت الحقل السياسي؟
يتميز هذا الأخير بمركزية الملكية. فهي في نفس الآن الفاعل الرئيسي في الحقل والمهيكل الوحيد له. وبالنتيجة فالثقافة السياسية للملكية مهيمنة على كل الفاعلين في مركز الحقل السياسي، وكل رافض لهذه الهيمنة يتموقع في هامشه.
إن جوهر الصراع الذي خاضه الصف الوطني الديمقراطي بكل مكوناته منذ حصول المغرب على استقلاله، هو إعادة ترتيب هذا الحقل عبر إرساء ميكانيزمات لتبار حر ونزيه بين الفاعلين ورفع المؤسسة الملكية لما فوق صراع الأحزاب والبرامج، لضمان حقوق الوطن والمواطنة، وممارسة التحكيم بين الفرقاء وفق مقتضيات دستور ديمقراطي حداثي.
أظهرت التطورات الفعلية للتاريخ السياسي والثقافي المعاصر أن «الصف الوطني الديمقراطي» فشل في معركة إعادة الترتيب، وظل الحقل السياسي المغربي يعيد إنتاج طبيعته المحافظة ولو بلبوس جديدة. انعكس الفشل على «الصف الوطني الديمقراطي» فعاش عمليات انشطار وأجواء قلق وضياع وتضييع متعددة وموزعة على امتداد خمسة عقود. فتموقعت بعض تشكيلات هذا الصف في مركز الحقل السياسي مستبطنة هيمنة الثقافة السياسية السائدة، بينما اختارت أخرى التموقع في هامش الحقل منتظرة حلول ظرفيات مواتية لزرع ثقافة سياسية أخرى.
انشطر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عدة مرات، وخرجت منه تشكيلات كانت جديدة خلال تلك الظرفيات: منظمة «23 مارس» سنة 1967، و«الاتحاد الاشتراكي» سنة 1972، و«الاختيار الثوري» سنة 1975. وبعد ذلك انفصل عن الاتحاد الاشتراكي، «حزب الطليعة» سنة 1983، المؤتمر الوطني الاتحادي سنة 2001، والحزب العمالي ثم الحزب الاشتراكي. يكاد تاريخ هذا التوجه اليساري يختزل في تاريخ انشطاراته المتعددة التي طالت أصله وفروعه، فالظاهرة بنيوية لا تعكس فقط كثرة الاختلاف بل سيادة عقلية لا تقبل التعدد ولا تتعامل مع الاختلاف إلا بالمنطق الثنائي المقصي للرأي الآخر. لذلك تتقلص مساحات الحوار، وتتسع جبهات المواجهة والتصادم. حتى الطرف المتضرر يعيد إنتاج نفس البنية داخل الإطار الذي يؤسسه بعد الانفصال. فيدخل الحقل السياسي بخطاب التغيير، ويؤصل التقليد بقبوله عن قناعة أو مضض: مرتكزات الثقافة السياسية السائدة، أو يرتكز إلى الهامش مشرعنا سلوكه بطهرانية طوباوية. انطلاقا من الظرفية التي بدأت سنة 1975 مع الميسرة الخضراء، اختار الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الانزواء في هامش الحقل السياسي، خوفا من الانزلاق إلى مستنقع الانتهازية والانتفاع. أما الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية فقد اختار خوض معركة نظام الحسن الثاني من الداخل مراهنا على «الشعب» لكسب الرهان. وبالرغم من كثير من الملاحم خسر المعركة، واستدرج جزء لا بأس به من أطره إلى «المستنقع» الذي كان يناضل من أجل تجفيفه.
قسم مهم من الاتحاد الاشتراكي غاضب على قيادته الحالية، وقد ينفصل عنها لينضم إلى العازمين على إعادة الروح للاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ما أفق هذه العملية المحتملة؟ مجرد خلق «دكان» جديد للتموقع داخل الحقل السياسي في الهامش، كما هو الحال بالنسبة للإطار المستقبل؟ وبالتالي بلورة ثقافة سياسية جديدة، وتحالفات جديدة كفيدرالية اليسار الديمقراطي؟ أم في مركز الحقل السياسي بقبول الثقافة السائدة، وبالنتيجة الالتقاء بقوى الواجهة؟ في هذه الحالة، أي تحالف سيعقد «الحزب المتجدد» مع «العدالة والتنمية» أو مع «الأصالة والمعاصرة»؟ صحيح أن كل عملية «تجديد وتجميع» لا يمكن إلا تفهمها في إطار رداءة الحقل الحزبي، إلا أن التجاوز المنتج للتشرذم والقرف السياسي المصاحب له يتطلب وقفة تأمل عميقة، وانخراطا هادئا في أفق استراتيجي، لا تلغي فيه السياسة السياسوية الفكر المنتج، ولا يهمش فيه الانتهازيون المناضلين الشرفاء. إن طريق ذلك هو طريق بناء «مواطنة حزبية» تبتكر وتضبط، عبر رابطة القانون وثقافة الشفافية والإشراك، أساليب حل «معادلة الوحدة والتعدد». فلا حزب حداثي بدون ذلك.
المصطفى بوعزيز