التقيت، مصادفة قياديا سابقا في حزب الاستقلال على متن القطار جمعتني وإياه سابق معرفة، وفرقتنا سبل شتى. سألته عن أحوال الدنيا فانبرى محدثا بنبرة غاضبة وبلكنة مراكشية، مما أنقله بالعربية مع تحويرات بسيطة لا تَمَسّ الجوهر.
ـ نعاماس، أنا في وضع هذا البدوي الذي حل بالمدينة، إن فتح عينيه عصى ربه، وإن أغمضهما فُعلت به الأفاعيل. ولذلك أغمضهما تارة وأفتحهما تارة. فتحتهما قبل أيام، ورأيت لأسبوع العجب العُجاب. تقرير للمجلس الأعلى للتعليم لا يُعرف رأسه من رجله. ليس في العالم مدرسة تُدرّس التلميذ ثلاث لغات دفعة واحدة. مباراة دولية للجيدو نظمت بالمغرب وحضرها فريق من إسرائيل. وثالثة الأثافي، فيلم يقدح فينا ويشمت في مجتمعنا ويشكك في قيمنا. أهذا نتاج كل هذا الدعم للسينما، ومهرجانات السينما، أن نُخرّب بيوتنا بأيدينا. هل نرضى أن نُصوَّر كماخور؟ غضبنا لأن صحافية مصرية نالتنا بشائن القول، وها نحن أولاء نرى واحدا من بني جلدتنا يُمرّغ كرامتنا في الوحل ويزعم أننا لا نعرف واقعنا. فأي واقع هذا الذي نجهله؟ هل تُختزل باريس في ساحة بيغال، ونيويورك في الشارع 42؟
وللحقيقة نحن مسؤولون، ومسؤولون من قديم. ولا أريد أن أثقل عليك بحديث طويل ينصرف إلى التاريخ القديم. مسؤولون نحن كحزب أولا، قديما، وإلى عهد قريب حين بدأنا انتقال الأجيال بتقبيل الأيادي، واستلام السلطة بتقبيل الأرض. هي حقيقة وليست مجازا أو سرا، فقبلنا التسويات بعدها، ورضينا بالإملاءات إثرها، وأصبح الحزب عبارة عن حاضنة وليس أُمّا تُرضع أبناءها وتسبغ عليهم من عطفها فيبادلونها حبا بحب وتعلقا بتعلق. حاضنة لأبناء ليسوا أبناءها في حقيقة الأمر.
ماذا يفيد الآن أن نجأر اليوم بلا هوادة، وما شئت من التعابير المجلجلة؟ عامل السياسة اليوم هو المال. كم تريد من شخص في قاعة، وأنا زعيم أن أملأه. أجيَّش الأعداد وأعبيء الشاحنات، وأرسل الهتافات.. لِكم من الزمن؟ بضع ساعات؟ نصف يوم؟ لسنوات خلت مُليء مُرَكّب لفتى طموح كان ينعق مع كل ناعق، جُمعت له الآلاف؟ أين هو الفتى اليوم الذي جُمعت له الآلاف؟
في مراكش قبل سنة 1997، لم يكن للعدالة والتنمية حضور وازن. كان هناك الشيخ المغراوي، كان “يعطي للمخزن لاسُو وكان يعطيني تريسي، وكلها على خاطرو ونبينا عليه السلام”. كان القوة المجتمعية الفعلية بمراكش، ولذلك أخرج له الحداثيون قصة جواز زواج البنت ذات التسع سنوات وتناسل عنها ما تعرف من إغلاق دور القرآن…المسألة لا علاقة لها بمبدأ ولا حقوق الإنسان ولا هم يحزنون. وللحداثيين مسؤولية فيما آلينا إليه، وتلك قصة أخرى..
أشاطر أولئك الذين يقولون ليس لهؤلاء الذين يتربعون على عرش الحكومة مرجعية فكرية، ولا رؤية، ولا هم ذوو كاريزمة، ولكن لهم قوة تنظيمية، وهو أمر مهم في السياسة. أشمئز حينما أسمع واحدا منهم يقول إن وضع مصر حاليا أحسن من ذي قبل. وهل يجيز خطاب الأرقام دوس أرواح الأبرياء والتمثيل بالضحايا ويَجُبّ المظالم المقترفة؟ لعل محطات البنزين اليوم مزودة بالنفط، ولكنه نفط مختلط بدماء الضحايا. لعل الخبز مبذول، ولكن يحمل أنين الجرحى. ألم يكن حريا بصاحبنا أن يصمت إن لم يستطع أن يجهر بالحق؟ أخطاء هؤلاء وقصورهم لا يقوم ذريعة لنعود إلى الفديك وما بلونا من الفديك من تمييع للسياسة وحالة الاستثناء. وفي شبيه الفديك ما يثير القرَف ويبعث على الخوف. لسنا في وضع مثل اسبانيا حيث استرجعت السياسية رونقها، باعتبارها رؤى ومرجعية فكرية. الضحالة الفكرية. طلع علينا مثقف كبير بخواطر عن قضايا عفا عليها الزمان ليقول لنا، بعد اثني عشرة سنة، بأن الخروج عن المنهجية الديمقراطية، كان خطأ، متجنيا على أشخاص عوض تحليل ظواهر. وليقول لنا اليوم، يا للشجاعة، بأن الحرب على العراق جائرة. لست أدري ما سيقوله عن وضعنا الحالي ومتى؟ أحين نكون عظاما نَخِرة؟ ليحدثنا باستعلاء وعجرفة أننا لم نفهم شيئا، ولم نبلغ الوعي التاريخي، ولم ندرك مفهوم التاريخانية، وهلم جرا، بعربية ركيكة وتركيب مهلهل وأخطاء لغوية عدة لمن يزعم الدفاع عن اللغة العربية.
لسوف أحكي لك شيئا شبيها بهذا الذي نعيشه حينما اجتاحت القوات العراقية الكويت، وقرر الملك الراحل بعث قوات عسكرية، وانبريت من عل منبر البرلمان أنتقد القرار، لأن ليس لقواتنا أن تفتح النار على إخوتها، وتعرضت لنقد شديد من الطبقة السياسية كلها، وغضب علي دهاقنة الحزب. سويعات بعد ذلك أُعلِن أن الملك سيوجه خطابا.وفي ذات اليوم خطب الملك ليقول إن القوات المغربية ليس جزءا من التحالف الدولي، ولكنه بعثت به لحماية “قبر جدي، عليه الصلاة وأزكى السلام”. وأضاف: (الجيشْ ما شغلْ حدْ)… اليوم لا من يسأل، ولا من يجيب.
معذرة، أثقلت عليك. نحن على مشارف البيضاء، ولعلي بعدها أن أغمض عيني لأني إذ افتحهما أرى ما لا يَسر.. لو تسمح لي بتحوير بيت شوقي الشهير:
وإنما الأحزاب المبادئ ما بقيت فإن هم ذهبت مبادئهم ذهبوا.
وما زال العاطي يعطي. هاذي باغية القعاد نعاماس، مع شي طنجية. لله يتهناك نعاماس.
وصلنا المحطة وكان علينا أن نفترق. من الممكن أن نمتطي نفس القطار ونُولّي وجهات مغايرة. من الممكن أن نجتمع في ذات العربة دون أن تكون لنا بالضرورة رؤى متطابقة ولن يمنعنا ذلك من الإصغاء إلى الآخر، ليس تأدبا فقط، بل لكي نقف على أوجه الصواب في خطابات من نختلف معهم في المرجعية. من الممكن أن نلتقي في الهدف مع من لا نركب معه نفس القطار ويأتي من معطن آخر.
تذكرت وأنا أفترق مع محدثي حكمة لجلال الدين الرومي، ففي ركام الأطلال ترقد الكنوز الثمينة. تمشيت في بهو المحطة متمليا في حديث القطار. أليس من معالم الأزمة أن يتحلل القديم دون أن يولد الجديد كما يقول كرامشي؟ أليس في تفكيك القديم تسريع لميلاد الجديد؟
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير