كنت سادرا في قراءة الصحف ليلا حين سمعت طرقا عنيفا على باب بيتي، ففتحته، فإذا هو حمار أهوج لم يمهلني حتى غشي مكتبي دون أن يرعى حرمة للمكان، وخشيت أن يرتفع نهيقه فيوقظ الأهل، فدعوته أن يترفق مما تعلمته من اللغة الحمارية في مسرى حياتي العملية وأن يلتزم الوقار ويلبس عذار الحياء. فتح فمه حتى أراني قواطعه المستنة ثم مد شفته السفلى محدثا إياي مما أنقله إليك أيها القارئ:
ـ أنا أعلم أنك وحيد، ولذلك قصدتك، وأعرف أنك تتأفف من لعب الورق، وتقرقيب الناب كما تقولون، كما جرت العادة في شهركم هذا الذي تمتنعون فيه عن الأكل والشرب ولا تمتنعون فيه عن التقتيل، ولا أفهم أن تنقبض لزيارتي هذه، وقد أخذتني على غير إرادة مني إلى عهد الرومان، وتحدثت بلساني، ونسبت إلي أشياء لم أنهق بها وألصقت بي أفعالا لم أجترحها، ولذلك أبادلك التحية بمثلها، فأحل ببيتك لا حِل زائر، بل حِلّ مقيم. وأنا لن أغادر بيتك، ولن أغادر هذا الحيز من بيتك، فلْتأنسْ بعشرتي من الآن، ولْتصطبرْ على نهيقي من الآن، ولسوف أكون رفيقا بك، لأني لن أزورك إلا ليلا، وأتركك وشأنك نهارا تسبح فيه كما تشاء، ولا شأن لي إن أردت أن تنقل حديثنا… وأول شي هو أن تمسح هذا المكتب مما علاه من كتب وجرائد، وأن تغلق هذه النوافذ من المواقع. أنا لم آت لكي أحدثك عن فضيحة امتحانات الباكلوريا ولا مصنع بوجو وغضب الجيران، ولا اتهامات وكالة فارس لبلدك بالعمالة، ولا تفجير سوسة، ولا تسريبات ويكليكس عند… كدت أقول الأشقاء، أراك تبسم؟
فزممت شفتي لأحدثه باللغة الحمارية:
ـ المسألة جد، وهي ليست إلا الجزء الظاهر من الجبل الثلجي، ولا أدري ما تخفيه، ولعلك تعرف ما تقوله العرب في هذه الشأن «إن وراء الأكمة ما وراءها». ولا أرى أن يكون تسريب الوثائق الدبلوماسية قد طرأ على سبيل الخطأ، بل هو أمر مقصود من أجل ترتيبات عميقة للمنطقة بأسرها، كما حدث قبل أربع سنوات حين سبق ما سمي بالربيع العربي تسريبات ويكيليكس.
فرفع ذيله وأداره ذات اليمين وذات الشمال معقبا:
ـ أراك تَحِن إلى نَجْد ومن سكن نجدا. أنا لا أحدثك إلا بما يعتمل ها هنا، في…بلدنا، وهذا الذي يهمني. ينبغي الاعتراف لنا نحن الحمير بحق المواطنة. فعلينا ما عليكم من واجبات، وينبغي أن يكون لنا ما لكم من حقوق، ومنها حرية الرأي وحرية الفكر، ولو أنه يعسر أن يفكر المرء معكم لأنكم درجتم على حقائق مطلقة، وتفكير ميتافيزقي وقولبة إيديولوجية وميل لليسير من الأمر مما لا يُحملكم جهدا، وجنوحكم لما تسمونه بـ«التنوعير»، والناس أغلبهم قد تطبعوا بالردود البافلوفية عوض التفكير في الفروق الدقيقة.
فحركت أرنبة أنفي متحدثا بلغة الحمير:
ـ هذا الذي قلته على لسانك إذ زرتك في عهد الرومان، وميزت بين المعتقدات وهي أفكار نرثها وهي لذلك ليست ملكا لنا، وبين الفكر، وهي أفكار نصوغها وهي ملك لنا نتصرف فيه كيف نشاء.
فأطال الحمار أذنه:
ـ تلك فكرة للفيلسوف أورتيكا إي كاسي حمّلتني إياها، ولا بأس في ذلك. وأرى أنكم لا تميزون بين الفكر والمعتقد والتقنية، وشأن الفكر عندكم هزيل. ولعلك تذكر محاكمة سقراط؟
ـ حين يُشبّه الفيلسوفَ أو المثقفَ ببعوضة تخِز جسم حصان مترهل كسول، فتبعث فيه النشاط، كناية عن المجتمع.
ـ ليس ذاك، بل حين يميز بين علية القوم الذين يكونون محط تَجلّة وموضع شهرة، ولكنهم ليسوا بالضرورة محدثين بالحقيقة، والشعراء الذين يتكلمون عن أشياء لا يدركونها، ويخلطونها بأهوائهم وما تشتهي أنفسهم وشأنهم شأن صحافييكم أغلبِهم، ثم الحرفيين الذين لا يخرجون قيد أنملة عمّا تعلموا كشأن تقنقراطييكم. والحقيقة شأن الفئة التي تطرح الأسئلة، ولا تركن للظاهر من الأمر، ولا تجنح للوثوقية.
ـ وهل أتيت لكي تلقي علي درسا في الفلسفة..؟
ـ أتيت لكي أنهق على مسامعك ضرورة تشخيص موطن الداء، والذهاب في كل شيء إلى الأصل عوض الأعراض. الناس لا تقتتل في شأن الأفكار، ولكنها تقتتل في شأن المعتقدات. أصحاب العقول الراجحة والمجتمعات الناضجة يميزون بينهما، ولا يتناقشون في شأن المعتقدات، لا يجرون النقاش ولا يقيمون الحوار إلا في شأن الأفكار، أما أنتم، أعني من يمتهن مسؤولية صياغة الرأي العام فتخلطون الفكر والمعتقد، ولو كنت نائبا عاما لتابعتكم بانتحال الصفة. وأريدك ها هنا أن تعيد قراءة الكتاب 8 من المدينة الفاضلة لأفلاطون، لكي تفهم ظاهرة تسلط الزنابير، أو زرزي، بلغة أمك، على العسل، وانتحالها له، وأنت تعلم أن الزنابير لا تنتج عسلا، ولكن لها إبرا لاسعة، وقدرة على الإيذاء كبيرة، و«الجبهة» فضلا عن التنوعير والظهور بمظهر التنظير.
ـ وتريدني أن أواجه لسع زرزي بقراءة المدينة الفاضلة، والأخلاق إلى نيكوماك وتأملات ماركوس أوريليوس… لله يجيبك على خير ألحمار.
ـ فيك، سيدي المثقف، شيء من تَحيماريت، ليس بمعناها النبيل. على رسلك، أنا لا أريدك أن تواجه أو ألا تواجه، بل أن تفهم. والفهم ليس وحيا يوحى، بل تملي في الأشياء، ورسم مسافة مع الأحداث.
ثم وقف «دين الكلب» على حافريه الخلفيين في وضع إنساني وأخذ ينهق الشعر العربي القديم:
قفا ودّعا نَجْدا ومن حلّ بالحمى…
مما استثار غضبي فأوقفته:
ـ حسبُك يا حمار، لقد صرفتني عن أخبار الدنيا، وهناك ما يستحق أن نقف عليه من تقتيل تعرض له سياح بسوسة بتونس، ولمسجد شيعي بالكويت، واعتداء بإيزير بفرنسا.
ـ وهل تحسب العنف ينبت جراء نمو طبيعي… هؤلاء الذين يُحبّرون المقالات، ويجأرون بالتحليلات عن قريب سيتحولون لشيء آخر وينسون الأمر. لِم عشش الفكر الداعشي في أذهانكم؟ هذا الذي أريدك أن تنصرف إليه. وإلى اللقاء.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير