منذ ظهور الفضائيات منتصف التسعينات، وانتشار الأنترنت بعدها، كثر الحديث عن الفتاوى الدينية الصادرة عبر هذه المنصات، وما عرفته من فوضى جعلت الفتاوى الرقمية تتفرق يمينا وشمالا دون مراعاة لاختلاف الخصوصية والبيئة والمكان… مما أحدث خلخلة في أنماط التدين بكثير من دول العالم الإسلامي.
وباء كورونا، اليوم، يكشف عن ظاهرة أخرى تستحق التوقف… تتعلق بمواقع أو منصات تثير نفس فوضى المنصات السابقة، إذ تدعي أنها متخصصة في مجالات التغذية والطب البديل، تسوق لأفكار غير علمية بل كاذبة، تخلط معلوماتها بكثير من الإيديولوجيا لضمان الانبهار، كما تزعم أنها تحارب كل العالم الآخر المتآمر لإفساد نظامنا الغذائي… خلطة كفيلة بأن تصنع لنجوم التغذية الجدد شعبية.
وقفت، مؤخرا، على محاضرة لأحدهم وهو يتحدث عن الاستعمار الغذائي، متناسيا أنه إن صح الحديث عن احتلال ما، فلِمَ لا يتحدث عن المد العروبي. متى كانت الحبة السوداء وتمر العجوة وأبوال الإبل جزءا من نظامنا الغذائي أو الدوائي؟ وهل لم يعرف المغاربة الذين يستوطنون هذا البلد منذ آلاف السنين عاداته الغذائية إلا مع مجيء المسلمين؟ هل الكسكس الذي يعود تواجده لِما قبل الميلاد جاء به ابن نافع أو بن نصير أو من كان معهما من جيوش لا تعرف إلا التمر والإبل، ولا عهد لها بنظام غذائي قائم على الزراعة؟
لا شك أن العرب استقدموا معهم عددا من العوائد، لكنها لم يكن بإمكانها سوى أن تذوب وسط نظام غذائي متكامل مرتبط بما توفره الطبيعة، وما تمنحه من منتجات، ليتراكم ذلك عبر السنين ويتحول إلى موروث جيني يظهر أثره في السحنات والطباع وطبيعة تفاعل الأجسام مع محيطها ومع الأمراض… وينعكس ذلك على الدواء والاستشفاء، فلا يمكن لمريض بالزكام في بيئة صحراوية، مثلا، أن ينصح بشرب البرتقال، كما لا يمكن لمن يعيش بين المروج وأشجار البرتقال والنارنج أن ينصح بأكل سبع تمرات.
صحيح أننا فقدنا الكثير من عاداتنا الغذائية الجميلة، وغيرنا كثيرا من طقوسنا الصحية، لكن ذلك ليس بسبب الاستعمار كما يزعم صاحبنا، ولكن بسبب اختلاف النظام الاقتصادي… حيث يبنى كل شيء على توقيت الإنتاج، وهو ما يقتضي سرعة في تحضير الوجبات الغذائية وسرعة في الأكل…
يضرب شيخنا مثالا على هذا الاستلاب المزعوم بطبق السلاطة الذي يقدم قبل الغذاء، ويعتبره عادة غريبة عن تاريخنا الغذائي، فيما لو كلف نفسه قليلا، وعاد لما كتبه، مثلا، المؤرخ السوري فاروق مردم بيك، في كتابه “مطبخ زرياب”، ليعرف كيف أن هذا الموسيقي البارع الفار من العباسيين لقصور بني أمية بالأندلس قد أحدث ثورة في طرق الحياة، وكيف تحولت بوجوده موائد القصر، وكيف جلب الثلج من قمم الجبال لتبريد الأشربة، وحرصه على تأسيس جيش من الطهاة لصناعة ألذ الطعام، وكيف علمهم ألا يضعوا كل شيء على المائدة، وأن يبدأوا بالشوربة الحلوة المالحة أو الحارة ثم يقدمون الأطباق فالحلوى.
سيعرف، أيضا، كيف علم الأندلسيين أدب الجلوس للمائدة، وكيفية الكلام بتأن وأناقة عند الأكل، وطرق وضع المناديل على المائدة، واحدا لليدين وواحدا للشفتين، وأخرى للجبهة والعنق، وتمييز مناديل النساء عن الرجال بتعطيرها وتلوينها، وغير ذلك من عادات الطعام وقواعد الإتيكيت التي أخذها الغرب عن هذا الفتى القادم من بغداد، فأين الاستلاب ومن أثر على الآخر؟
ثم من قال إن كل عاداتنا الغذائية معصومة من الخطأ، وكأنها وحي معصوم أو كتاب منزل، هي ثقافة ككل الثقافات فيها السليم والعليل، والصحي والمرضي، ونحن اليوم أمام وباء عالمي أجبرنا على تغيير كثير من عوائدنا اليومية. فأي العادتين أكثر صحية؟
الأكل في طبق واحد مع سرعة انتقال الفيروسات اليوم وإمكانية العدوى؟ أم ارتباط كل شخص بصحنه وطعامه؟ أيهما أصلح لصحة الإنسان وسلامة بدنه؟ أن يأكل بالشوكة التي تعفيه من أطنان من الخبز يأكلها في حياته، وما يترتب على ذلك أمراض ومضاعفات؟…
نُظم الغذاء ليست إيديولوجيات ولا أديان، بل هي عادات مرتبطة بالأرض والبيئة، وبفعل ما وقع تاريخيا من اشتباكات بين مختلف الأمم والبلدان، حصل ذلك بتراكم لآلاف السنين ولا علاقة له بظهور دين أو غياب آخر، والأخطر في الموضوع هو حين تتحول أكشاك الفتاوى الغذائية من مجرد الحديث عن منافع بعض الأعشاب إلى تعريض صحة الناس للخطر، وتحميلها ما لا يمكن أن تحتمل، وهنا لا بد من مواجهة شيوخ الفتاوى الغذائية بمثل ما واجهنا به شيوخ الفتاوى الدينية.
محمد عبد الوهاب رفيقي
كاتب رأي