للجغرافيا ثوابتها، لكن خطوط التماس فيها قد تكون متغيرة، فيما يشبه الرمال المتحركة، خاصة إذا كان زحفها بإرادة الاستعمار وليس بإرادة الطبيعة. وللتاريخ متغيراته التي يتقاطع فيها الظرفي بالبنيوي، بيد أن محطاته الحاسمة لا تكون بالضرورة اختيارية، إذ من غير المستبعد أن يحضر عنصر الغصب والعنوة والإكراه وفرض الأمر الواقع. وبين ثوابت الجغرافيا القابلة للاهتزاز، ومتغيرات التاريخ التي تسم منحنيات الصيرورة التاريخية، تتعدد وسائل التدبير، التي قد تنطلق من ساحة المعركة وتنتهي في قاعة الحوار.
لا نريد العودة إلى الخرائط الجغرافية للمغرب في العصر الوسيط، ولا أن نُذكر بامتداد مجالي لخريطة الوطن لقرون خلت. لكن يعنينا أن نفهم كيف جرت عملية القضم التدريجي لهذه الخريطة زمن الاستعمار، من خلال استحضار محطات تاريخية شاهدة على عملية صنع الخرائط على المقاس الغربي، الممعن في الابتزاز، متى استدعت مصلحته ذلك.
منذ احتلال الجزائر سنة 1830 لاحت إلى العلن نوايا استعمارية في المنطقة، وبدأت تظهر خرائط جديدة، تعكس طموحات القوى المتنافسة للظفر بمجالات احتلال وسيطرة على القارة الإفريقية، وهو المخطط الذي توج بصيغة للتفاهم في مؤتمر برلين سنة 1885-1884. وقبل ذلك، كانت فرنسا تمارس سياسة الأمر الواقع انطلاقا من مستعمرتها شرق المغرب، فبدأت بتقزيم حدوده الشرقية والسيطرة عليها تدريجيا منذ احتلال لالة مغنية، التي كانت تابعة للمغرب، سنة 1843، وليس انتهاء ببشار التي ظلت مغربية بدورها إلى حدود سنة 1903. كما عملت نفس الدولة على تطويقه من الجنوب، بعد زحفها شمالا من السنغال، لوضع يدها على إقليم كان تابعا له، أطلقت عليه مع نهاية سنة 1899 اسم موريتانيا. فحاصرت بذلك المغرب من الشرق والجنوب، ودخلت في صفقة دولية، سمحت بموجبها لإسبانيا بأن تشاركها النفوذ شمالا وجنوبا.
لم يكن هذا الزحف والتمدد مجاليا لإعادة تشكيل خرائط المنطقة، وليد ترتيبات ما بعد مؤتمري فيينا (1815) وبرلين (1885-1884)، لحقن الدماء الأوربية وتوزيع كعكة المستعمرات. بل جرى التمهيد له على مراحل، قد تبدأ بالاستكشاف والتجارة، مرورا بالدبلوماسية والمعاهدات غير المتكافئة، وتنتهي بلغة التهديد بالبوارج، واقتحام المجال.
من مكر التاريخ بالنسبة للمغرب أن هذه المعاهدات غير المتكافئة تم تدشينها في زمن القوة وليس الضعف، كما حصل للعثمانيين مع فرنسا في أوج قوتهم. ومن سخرية القدر أيضا أن أول معاهدة مهدت جديا لنظام الحماية القنصلية، وما صاحبها من ضرب للسيادة المغربية خاصة في المجال القضائي، كانت مع دولة السويد سنة 1763. وهي الدولة التي لم يكن لها حضور قوي على ساحة الصراع حول المستعمرات، ومع ذلك، كانت من الدول الموقعة على مؤتمري مدريد سنة 1880 والجزيرة الخضراء سنة 1906، بشأن المغرب. في هذا المسار من التفاوض، عرفت الدبلوماسية الغربية انتقالا نوعيا من الهواية إلى الاحتراف، فانتعشت مع المرحلة المركنتيلية، ووصلت أوجها في فرنسا مثلا مع قانون 1833، الذي لم يعتبر القنصل مجرد ممثل للدولة بل حارسا لمصالحها في الخارج. واشترط نفس القانون في المترشح لمنصب القنصل المتعلم، وهو أدنى درجة في السلك الدبلوماسي، أن يكون حاصلا على الإجازة في القانون أو الباكالوريا في العلوم الفيزيائية، وأن يخضع بعد تفوقه لتكوين مكثف في الاقتصاد واللغات، وكل ما له علاقة بالشأن الدبلوماسي. حصل كل هذا في وقت كان المخزن يعتمد فيه دبلوماسية الفقيه، أو دبلوماسية المأمور. والدبلوماسي المغربي في كلتا الحالتين كان يجهل لغة من يفاوضهم، أو يجتمع معهم في قاعة المؤتمر. ألم يعتذر الحجوي عن المشاركة في مؤتمر الجزيرة الخضراء، وأجاب وزير الخارجية عبد القادر بن سليمان بالقول: “في ذهابنا سنكون من جملة البكم”. ونتيجة هذا الأداء الدبلوماسي معروفة، إذ أعلنت عن نفسها يوم 30 مارس 1912. اختارت دولة السويد، إسوة بباقي الدول الاسكندينافية، خلال القرن العشرين، خاصة زمن الحربين العالمتين وتوترات الحرب الباردة، نهجا دبلوماسيا فيه كثير من الاحتراز، مقابل استثمار في الداخل لضمان الرفاه لمواطنيها. ومع مطلع الألفية الثالثة، صارت تنحو منحى البحث عن تموقع قوي في المنتظم الدولي، في مسعى للتميز خارج إستراتيجية الولايات المتحدة ورهانات مجموعة البريكس. واستفز آخر فصل في نهجها الدبلوماسي الشعور الوطني المغربي، بعد إثارة فكرة تقديم مقترح للاعتراف بالبوليزاريو. فهل نحاسب دبلوماسيتها أم نسائل دبلوماسيتنا؟
قضيتنا عادلة، ولو أحسنا تقديمها للعالم، ربما لكانت السويد وغيرها من الدول سباقين لدعمنا، وتبخرت أحلام الخصوم، الذين يقتاتون من هفوات وفراغات دبلوماسيتنا. نقول عادلة، واسألوا الشيخ المجاهد ماء العنين، الذي كان ينسق مع السلطان الحسن الأول لدحر النفوذ الاقتصادي لماكينزي البريطاني، والتمدد الاستعماري الإسباني/الفرنسي في المنطقة. لكل ذلك لا نحتاج إلى التذكير أن الدبلوماسية صارت منذ قرون خلت علما له قواعده وأسسه، واستبطان هذا العلم اليوم هو الذي سيمكننا من دبلوماسية تبدع ولا “تُفعفع”، تبتكر ولا تنتظر، تقوم بالفعل وليس رد الفعل. دبلوماسية استباقية توقعية، تملأ المساحات وتحشد الطاقات ولا تترك الفراغات، تعي حجم المخاطر المحدقة ببلد جواره نشاز وتوتر، تنهل من مدرستي كيسنجر وروبير شومان، وليس من معلقة عمرو بن كلثوم.
الطيب بياض
مستشار علمي بهيئة التحرير