تظل أفضل وسيلة لتشويه التاريخ هي أن ننسى أو أن نتعمد نسيان الأشخاص والرجال الذين صنعوه. أو أن نفترض أننا أمام مجموعة من الحقائق العفوية التي تنبعث فجأة من العدم، بدون ذكر الرجال الذين رافقوها بحكم الانتماء إلى المجال الذي ظهرت فيه، وبدون ربطها بعلاقات تأثير وتأثر من شأنها أن تجعلها ذات معنى. التذكير بهذه البديهة يدفع إلى اقتحام الأبواب المشرعة، كما يحتاج إلى ذلك تاريخنا المعاصر لتسليط الضوء على الكثير من مناطق الظل التي ما تزال غامضة. مع رجالاتنا السياسيين، أو صانعي التاريخ المفترضين، يتطلب وضع خط فاصل يميز بين أولئك الذين يكتبون وأولئك الذين لا يكتبون. بين أولئك الذين صاغوا كلمات وعبارات حول قناعاتهم وأفعالهم، وبين أولئك الذين فضلوا الصمت، إذ لا يشعرون بأنهم ملزمون بذلك.
على كل، ورغم ما قيل وما كتب، ما زلنا نعاني نقصا في الشهادات المباشرة، التي يمكن أن تضفي على بعض الروايات الشخصية أو المنقولة واقعية مميزة. والمثال، الذي يتبادر إلى الذهن على الفور، يتعلق بالروايات المكتوبة وغير المكتوبة حول الحركة الوطنية.
لقد تعلمنا الكثير عن هذا الموضوع، من خلال الإسهامات السردية للزعيم علال الفاسي، والتأملات العميقة للحكيم عبد لله إبراهيم، والصرخات المتمردة للشخصية الأممية المهدي بن بركة، والتحليلات الجذابة للمفكر الفذ عبد لله العروي. ويمكن أن نقف عن كثب، بعد مرور الوقت الضروري، على نوع من التكامل بين هذه الأساليب والمقاربات التي تحمل بصمة لأصحابها يصعب محوها. لقد عرفنا الكثير، أيضا، عن أولئك السياسيين وعن أسلوبهم في العيش على ضوء ما كتبوه.
السيرة الذاتية تكون، دائما، ذات فائدة كبيرة إذ تساهم في الكشف عن الحقائق المسببة للأحداث وتأثيراتها على الناس والمحيط. والحال أن الكتابات السير-ذاتية ما تزال نادرة في المغرب. ذلك أن فن السيرة الذاتية جزء من القصة، بل من قصص من عاشوا مع صاحبها ومن جايلوه. فن السيرة، وإن كان يعد تخصصا في حد ذاته في مفهومه وتمثله، هو من البساطة بما كان. إذ يتعلق الأمر كله بإعادة سرد تاريخ الرجال والنساء الذين يصنعون التاريخ والذين يستحقون، بناء على هذه الصفة، أن يكونوا معروفين ومعترفا بهم من قبل المؤرخين، ولدى الجمهور الكبير أيضا. ذلك ما تحاول “زمان”، منذ بدايتها الأولى، تحقيقه والوصول إليه، وإن كانت تدرك أن الأمر صعبا. لكنها تدرك، أيضا، أن هذا البحث، حتى يكون منتجا ومفيدا، يجب دفع صناع التاريخ، لا سيما أولئك الذين اختاروا الصمت، إلى تدوين أبرز محطات مساراتهم السياسية. يكون الأمر أكثر إحباطا عندما يتعلق الأمر بشخصيات أثرت بكل ثقلها في المشهد السياسي الوطني. بمجرد ذكر أسمائهم، تستحضر الذاكرة الجماعية كل البرامج، سواء تلك التي رأت النور أو التي تم وأدها في المهد. كل مثال من تلك الحالات يستحق أن يكون موضوعا للدراسة والجواب عن الأسباب التي جعلتهم ينصرفون عن الكتابة.
من بين هؤلاء، عبد الرحيم بوعبيد، صديق الحسن الثاني والمعارض الشهير للملك الراحل، لم يسطر جملة واحدة عن النجاحات والانتكاسات في مساره السياسي الرائع. كان يمكن أن نعرف أكثر عن الحسن الثاني، كإنسان وكقائد دولة، من خلال عبد الرحيم بوعبيد.
الشيء نفسه ينطبق على عبد الرحمان اليوسفي، المعتقل السياسي في عهد الحسن الثاني، حتى إن صاغ في الأخير ما اعتبرها مذكرات، اختلف حول مضامينها عدد ممن جايلوه. كان اليوسفي، في مذكراته، مقلا في الحديث عن المسار الطويل الذي قطعه في اتجاه القصر، وعن ما عاشه كوزير أول، وكشاهد قريب عن انتقال العرش من الحسن الثاني إلى خلفه محمد السادس.
مثال آخر في هذا النقص من الكتابات يجسده محمد الفقيه البصري، الرجل الذي خاض الكثير من المغامرات هنا وهناك. إذ لم يكشف، أبدا، وهو الذي اعتبر طويلا العدو الأخطر للنظام، عن طبيعة تمثله للملكية المغربية باعتبارها تجسيدا للدولة والسلطة المركزية.
لا أحد من هذه الوجوه الكبيرة في المغرب السياسي، أثناء وبعد الفترة الاستعمارية، قدر، رغم قيمته التاريخية، التأثير السلبي لصمت، لكنه يصم الآذان.
لقد أدى ذلك إلى تراكم نقص حقيقي في المعرفة التاريخية، في معرفة تاريخنا.
الآن، الفاعلون السياسيون المعاصرون، كيفما كانت ألوانهم الحزبية، مدعوون لكتابة سيرتهم الذاتية، باعتبارها أداة حاسمة لتقدير فترة ما، حتى وإن كانت لا تخلو، أحيانا، من تحيز وإسقاطات. جان لاكوتور، المؤرخ والصحافي، يعترف بأنه لا يتردد في الابتعاد عن قاعدة الموضوعية المميزة لهذا التخصص.
بالنسبة له، تتعمد السيرة الذاتية الإبقاء على مناطق رمادية لإعطاء القراء مساحة من ردود الفعل وإمكانية قراءة مختلفة لتاريخها.
يوسف شميرو
مدير النشر